عندما صرّح وزير الدفاع اللبناني فايز غصن منذ سنة عن وجود عناصر لتنظيم "القاعدة" في لبنان، شنت قوى "14 آذار" هجوماً على غصن إلى حد إتهامه بخدمة النظام السوري وإستهداف "الثورة". حينها كانت العواصم الدولية ترفض الإعتراف بوجود التطرف في سوريا، رغم تعدد التقارير الإستخباراتية التي كانت تتحدث عن وصول المتطرفين الإسلاميين من كل العالم للقتال إلى جانب المعارضة السورية.
منذ بضعة أشهر، تصاعد نجم "جبهة النصرة" في لعبة الميدان السوري، إلى أن جاءت وقائع إعتراف الجبهة بالإنتماء إلى "القاعدة"، ومبايعة زعيمها أيمن الظواهري، وإنتشار مفاهيم التنظيم في عدد من الأرياف السورية، إلى حد تمجيد عمليات الذبح والتنكيل والتكفير و الفرز الطائفي... لم يستطع "الجيش السوري الحر" كسب السباق مع "جبهة النصرة"، لأنها تفوقه عدداً وعدة وتدريباً ودعماً مالياَ وقدرة على التحشيد المسلح، إضافة إلى الإستفادة من خبرات المقاتلين في حرب أفغانستان والعراق. ومن هنا لم تجرؤ المعارضة السورية على رفض الجبهة لعلمها أن لا قدرة على تحقيق أي مكسب عسكري أو الحفاظ على أي إنجاز ميداني دون مقاتلي "النصرة".
في هذا الوقت، أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على وضع الجبهة على لائحة المنظمات الإرهابية، لكنها غضت الطرف مؤقتاً عن تعاونها مع المعارضة السورية، لكن "جبهة النصرة" كانت تستفيد من التغاضي الدولي عن وجودها و نشاطاتها، وتقوم بعملية تمدد ممنهج في إتجاهات عدة ضمن خط تنظيم "القاعدة"، ولا تبدو حدود الإنتشار محصورة من العراق إلى تركيا ربطاً بالبيئة الأم في أفغانستان ومحيطها، غير أن أولوية هذا التنظيم المتطرف تتركز في سوريا وصولاً إلى الأردن وضمناً مناطق الشمال في لبنان.
ومنذ بضعة أيام تداولت معلومات إستخباراتية عربية معلومات عن قيام أحد فروع "القاعدة" بتحضير سيارات للتفجير في أكثر من عاصمة عربية. المعلومات أفادت أن التجهيز حصل في الأردن ودخلت بعدها السيارات إلى سوريا ومنها إلى العراق ولبنان. وعلى هذا الأساس إستنفرت أجهزة الإستخبارات في الدول المعنية، وتداولت في إمكانية أن تكون السيارة التي إنفجرت في وسط دمشق منذ أيام، هي واحدة من تلك السيارات التي أعدّتها "القاعدة" للتفجير في عدد من العواصم العربية.
ما بين التحشيد الميداني والشحن الطائفي والمذهبي وإرباك الساحات، تستفيد القوى المتطرفة للتمدد بسهولة، و تبدو البيئة خصبة في عدد من المناطق كما هي الحال في دير الزور السورية المتاخمة للحدود العراقية. وفي اطار معلومات جدية تداولها المطّلعون عن رغبة "القاعدة" بترسيخ دولتها من الأنبار في العراق إلى دير الزور والرقة السورية، جاء إسم "الدولة الإسلامية" بديلاً مقترحاً عن "دولة العراق الإسلامية" و"جبهة النصرة".
أمام الواقع المتطرف، يتفرج الغرب على تدحرج المشرق العربي نحو تطرف يشبه ما حصل في أفغانستان، لم يعد بمقدوره فعل شيء سوى عدم السماح بتسليح المعارضة السورية، رغم وجود إقتراحات عربية-تركية لتقديم السلاح النوعي إلى المقاتلين السوريين من غير المتطرفين، لكن التقارير الغربية أكدت جميعها أن لا قدرة للمعارضين خارج نطاق التنظيمات الأصولية على القتال ضد النظام، ولا التحكم بوجهة الأسلحة.
حتى الساعة لا زالت واشنطن تتفرّج على التطورات السورية، وتعتبر أن اللعبة مضبوطة لم تتجاوز الخطوط الحمراء، وهي تخطط للإستفادة بإتجاهين عندما تحين ساعة التسوية عاجلاً أم آجلاً: إضعاف النظام بنيران "القاعدة"، وضرب "القاعدة" بنيران النظام.
لكن هل تسمح الولايات المتحدة الأميركية بإيجاد "دويلة قاعدية" تربك الشرق برمته؟ إشارة إلى أن تجربة أفغانستان قائمة، ولا يوجد ضوابط تمنع تمدد "القاعدة" في الشمال السوري بإتجاه الجنوب وصولاً إلى الجولان، أو بإتجاه بيئة خصبة شمال لبنان رحبت "بالقاعديين"، حيث الغاز الموعود في البحر قبالة طرابلس مثلاً وقد بدأت الشركات الأجنبية التنافس للحصول على إستثماراته والغوص في ملفات الثروة الطبيعية اللبنانية.
لم يعد بالإمكان القفز فوق أمر وجود "القاعدة" في سوريا، وسيكون الغرب والشرق مضطراً إلى ترجمة مقولة: عدو عدوي صديقي. فالنظام السوري يعادي عدو الأميركيين والأوروبيين والروس... قد تكون موسكو ترجمت هذه المعادلة منذ البداية ولا تزال صامدة على هذا الخط، خوفاً من تطرف يهدد حدودها ومحيطها ومصالحها ومكوناتها الإجتماعية. ولذلك تأتي البوارج العسكرية ذهاباً وإياباً إلى طرطوس، ويندرج هنا الدعم العسكري والدبلوماسي و تُحتسب الحصانة الروسية لدمشق في المحافل الدولية. وعندما تتأمن مصالح الأميركيين فيما يسمونه التسوية، ستقرأ واشنطن في سطر "جبهة النصرة" على دفتر المنظمات الإرهابية، عندها ستردد العواصم مع واشنطن ما كُتب على السطر.
القضية صارت واضحة المعالم وقائمة على ثابتة أن النظام باق على رأسه بشار الأسد، هذا ما يقوله الأميركيون والأوروبيون عملياً، ولذلك غابت البيانات والخطابات والتصريحات التى تتنبأ برحيل الأسد أو تطالبه بالمغادرة فوراً. كل ما يقوله الغربيون اليوم "عملية إنتقال سياسية" وقد تعني الإنتقال في سُبل الحكم من رئاسي مثلاً إلى برلماني... أو بالمشاركة عبر الحوار او عبر"طائف سوري".
لا يمكن أن يرحل الأسد بعد صموده أكثر من سنتين في وقت بدأ النظام يستعيد زمام المبادرة في الميدان و يسيطر على أبرز المواقع الإستراتيجية في أرياف دمشق وحلب وحمص... إنها لعبة الوقت التي يدفع ثمنها السوريون الآن دماً وغداً أزمة مالية.