يعتبر لبنان بلد الحريات والتنوع والتعدد والديمقراطية. ويعتبر الاعلام اللبناني رائدا في هذا المجال، حيث أعطي هذا القطاع مساحة لا بأس بها من الحرية التي غالبا ما تؤثر السياسة عليها وليس القانون. ولكن كما أنّ حرية الانسان تقف عند حدود حرية الآخرين، كذلك الحرية الاعلامية يجب أن تقف عند حدود الصدق في نقل الخبر، منع الفتنة وعدم تغذية الأزمات، وهذا ما لا نراه كثيرا في أيامنا هذه، بحيث أصبح الكذب رائجا والسبق الصحفي الذي يعتمد على ترويج الكذب أهمّ من دقة الخبر وهنا المشكلة.
برأي رئيس المجلس الوطني للاعلام عبد الهادي محفوظ، فإنّ المنافسة بين المؤسسات الاعلامية المرئية والمسموعة والسعي نحو السبق الصحفي هي السبب الرئيسي الذي أدّى لتغليب ظاهرة المبالغة بالخبر بحيث أصبحت الأخبار تلامس حد الكذب عن قصد أو عن غير قصد. ويذكّر محفوظ في هذا السياق بحادثة نشر أخبار عن مقتل المخطوفين اللبنانيين في سوريا، لافتا إلى أنّ السباق على السبق الصحفي دفع بمحطتين تلفزيونيتين لنشر خبر دون التأكد من صحة المصادر وكاد الأمر أن يتحول لازمة كبيرة عبر ردة فعل عنيفة بالشارع.
ومن هنا، يؤكد محفوظ، في حديث لـ"النشرة"، أنّ القانون والمواثيق الاعلامية الدولية تلزم صاحب المؤسسة الاعلامية عدم ذكر السبق الصحفي بحال كانت تداعياته المتوقعة سيئة، ومراعاة مشاعر الناس الذين قد يتأذون من هذا الخبر. هذا الأمر يؤكد عليه أيضا الدكتور المحاضر في الجامعة اللبنانية جورج صدقة الذي يرى أنّ "الاعلام اللبناني الذي كنا نتغنى بأنه الاول في العالم العربي تحول اليوم إلى إعلام مقاتل له قضية سياسية وحزبية بسبب ما يعيشه لبنان من حالة هلع، ولم يعد إعلاما موجها لكل الرأي العام ويهمه المصلحة العامة". ويعتبر صدقة، في حديث لـ"النشرة"، أنّ "تحوّل الاعلام اللبناني لاداة نزاع هدفها تحقيق الانتصار وضعنا في مرحلة يسمح الاعلام لنفسه فيها بالكذب من أجل تحقيق الاهداف المطلوبة"، لافتا إلى أنّ هذا الأمر هو أبرز أسباب ابتعاد الاعلام اللبناني عن المصداقية.
ويلفت محفوظ إلى أنّ المسألة الثانية التي تدفع اليوم للمبالغة بالاخبار هي السباق على السوق الاعلاني خصوصا بعد تدني الاموال في القطاعين المرئي والمسموع من 150 مليون دولار عام 2000 الى 50 مليون دولار في السنتين الاخيرتين. وبما أنّ هذا المبلغ لا يكفي بطبيعة الحال لتسع مؤسسات إعلامية مرئية ومسموعة، كان لابد من المنافسة الشرسة على السوق الاعلانية وهذا امر يتطلب نسبة مشاهدة عالية تجذب شركات الاعلان، كما يشرح رئيس المجلس الوطني للاعلام.
من جهته، يشير صدقة إلى أنّ تمويل الاعلام اللبناني وخصوصا المرئي منه شكل في الفترة التي نعيشها اليوم سببا اضافيا لضعف المصداقية والكذب، وذلك باعتبار أنّ المحطات الاعلامية اللبنانية لا تستطيع تمويل نفسها ذاتيا. ويعتبر صدقة أنّ الجهات التي تمول ليست جمعيات خيرية وبالتالي تستطيع فرض رأيها على الوسيلة الاعلامية لأنّ "من يموّل يأمر".
الحلول المتاحة
بالنسبة للحلول التي يمكن أن تقلّل من نسبة الكذب أو الأخبار المغلوطة قصدا أو عن غير قصد، يرى صدقة أنّ تطبيق القانون هو أفضل الحلول لو لم تكن السياسة متدخّلة لاقصى الحدود بعمل الاعلام. ويضيف: "أمر آخر مهم هو مصداقية الصحافة، بالاضافة الى الجمهور الذي يجب ان يحاسب الاعلام عندما يتقاعس القانون وهذا ما يجري بالدول الاجنبية". ويعدّد صدقة أبرز النقاط التي تظهر تراجع الاعلام اللبناني، فيعتبر أنّ نقل الخبر من وسيلة اعلامية لاخرى دون التأكّد من صحته يدل على تراجع المهنية في العمل الصحافي، كما ان نقل الخبر دون وضع مصدره يدل على تراجع الاخلاقيات الصحافية.
أما بالنسبة لقانون الاعلام ودور المجلس الوطني للاعلام في هذه الحالات، فيشير محفوظ الى ان دور المجلس ليس تقريريا وغياب الارادة السياسية أدّى لتفاقم الوضع. ويوضح أنّ "القانون يفرض بهكذا حالات اتخاذ عقوبات تبدأ من التنبيه ولا تنتهي عند وقف البث لفترة معينة"، إلا أنّه يقرّ بأنّ "تحول المحطات الاعلامية لمنابر سياسية وروحية جعل كلّ ذلك يبدو مستحيلا".
وعن المشروع الجديد لقانون الاعلام، يلفت محفوظ إلى أنّ الجميع أيّدوا إعطاء المجلس الوطني للاعلام دورا حقيقيا وسلطة في معالجة الحالات الشاذة واتخاذ اجراءات بعيدا عن الاستنسابية التي تفرضها السياسة. ويأمل اقرار هذا القانون في مجلس النواب بأسرع وقت ممكن، كاشفا عن العمل على إعداد تقارير اسبوعية تعدد مخالفات الوسائل الاعلامية، توزع على الرأي العام والمعنيين في الدولة من أجل الضغط نحو تصويب العمل الاعلامي قبل الوصول الى وضع اسوأ.
اعلام لبنان بالنسبة للاعلام العربي
ويتوقف محفوظ في سياق حديثه لـ"النشرة" عند وضع المؤسسات الاعلامية المرئية والمسموعة في لبنان مقارنة بالدول المجاورة، معتبرا أنّ الاعلام الخليجي أصبح في المرتبة الاولى حاليا ولبنان أصبح في المرتبة الرابعة أو الخامسة، ما يجعل إعلامنا محليا أكثر "وبالتالي نشهد مثل هذه المبالغات بالاخبار وهذا ما يؤشر لمستقبل سيء للاعلام اللبناني".
من جهته يرى صدقة أنّ كل هذه التراكمات التي ذكرت سببت تصدع الاعلام اللبناني وتراجعه امام الاعلام العربي، ويقول: "في القرن التاسع عشر كان الاعلام منارة لبنان، وتميزنا بين العرب بفضل اعلامنا"، ويشير إلى أنه كان للبنان اعلاميون شكلوا أهم منبر اعلامي في المنطقة والمطلوب اليوم اعادة هذا الدور الرائد للاعلام اللبناني، مشددا على ضرورة اعادة النظر ببنية الاعلام في لبنان وبقوانين الاعلام وبالنقابات الاعلامية.
الدقة في نقل الخبر ومصداقيته هما ما يميزان العمل الاعلامي الحقيقي، وخصوصا في لبنان نحن أحوج ما نكون لخبر مؤكد صادق لأنّ المتربصين بأمننا كثر ونحن بحاجة لمن يطفىء نار الفتن، لا من يزكيها عبر خبر كاذب أو غير مؤكد يصدر من هنا أو هناك عن قصد أو عن غير قصد. الاعلام مرآة لبنان وعبره يرانا العالم، فكيف ستكون صورتنا إن كانت المرآة مشوهة؟