انتهت المحاكمات في المحكمة الخاصة بلبنان في جريمة 14 شباط 2005، قبل أن تبدأ بصورة علنية في مقرّها في لاهاي، حتّى ولو في ظلّ غياب من اتهمهم المدعي العام السابق القاضي الكندي؛ دانيال بيلمار زُوراً، بالوقوف وراء هذا الاغتيال لغايات محض سياسية تكشّفت فصولها تدريجياً منذ صدور القرار الاتهامي والهالة التي أُسبغت عليه في سبيل تشويه صورة المقاومة في لبنان، ممثّلة برافعتها الرئيسية حزب الله، والانتصارات الغالية بشهدائها وجرحاها ومجاهديها السياسيين والمقاتلين، على العدوّ "الإسرائيلي".
إنّ الهالة المذكورة تأتي في طليعة الأسباب التي دمّرت الغاية المرتجاة من قيام المحكمة لمعرفة الجناة الحقيقيين، وأخفت على اللبنانيين الدراية الكاملة بهوّيات قتلة رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، خصوصاً أنّ من ارتكب هذه الجناية خيّط بإرادته ومسبقاً، مخطّط تضليل التحقيقات لكي يظلّ نائياً بنفسه عن الملاحقة والانكشاف، فضلاً عن توظيفها سياسياً على الساحة اللبنانية، بما يعود عليه بمكتسبات غير قابلة للتحقّق بسهولة، في ما لو سلك طرقاً أخرى لاصطيادها.
وزادت الاستقالات الفردية المتسارعة لعدد لا بأس به من موظّفي المحكمة في مختلف المراكز والمناصب والمهام، وهم من جنسيات عربية وأجنبية، في توجيه ضربة مُحْكَمة لبنيانها، ممّا جعلها تهتزّ وتترنّح رويداً رويداً، بانتظار حصول السقوط الكبير الذي يبقى توقيته سياسياً أكثر ممّا هو قضائي، سواء عن طريق وقف الدول المموّلة لمساهماتها المالية السنوية، أو تيقنها من إخفاقها في الوصول إلى النتيجة المرسومة لها، وبالتالي انتهاء مفعولها وصلاحية استثمارها سياسياً.
وجاءت التسريبات المتعمّدة والاستباقية للكثير من أعمال المحكمة بمختلف وحداتها، خصوصاً مكتب الادعاء العام، بشأن مسار التحقيقات ومضمون القرار الاتهامي الأوّل، وما تلته من محاولات تنقيح وزيادات استخدمت في إطار سياسي ولغاية سياسية أكثر من خدمة القانون والعدالة، لتظهر وجود شرخ كبير في ركائز عمل هذه المحكمة.
وقد أخفقت المحكمة في كتم أنفاس التسريبات، وكبح جماح الشائعات الحقيقية، وإخفاء ظهورها إعلامياً، لأنّ أصحاب التسريبات يعتبرون أنفسهم أقوى من المحكمة كمكان للقانون، وهم يديرون المحكمة بحسب أهوائهم ومصالحهم، والقيام بتسريب معلومة هنا، وخبر هناك، لا يمكن فصله عن نيّة مبيّتة بتحقيق رغبة سياسية معيّنة في توقيت سياسي ما، وإظهار المحكمة نفسها معطّلة ومنقادة، وهذا أمر خطر على مسار العدالة، إذ متى كانت خاضعة لرغبات ومشيئات سياسية، فإنّها تفقد مصداقيتها، وهذا ما حصل مع الأسف مع "محكمة الحريري".
إنّ نشر مجموعة "إعلاميون من أجل الحقيقة" على موقعها الالكتروني لائحة شهود الادعاء، أسقط ورقة توت إضافية عن جسد هذه المحكمة، ولو لم تكن هذه اللائحة صحيحة، لما بادرت المحكمة إلى ممارسة ضغوط فعّالة أفضت إلى حجب هذا الموقع الالكتروني بصورة سريعة وقياسية.
لقد تغاضت المحكمة عن مسألة جدّ مهمّة، وهي أنّ نشر ما قيل إنّه قائمة شهود، يبقى أقلّ خطراً وضراوة من مفتعلي التسريب المتحكّمين بمفاصل عمل المحكمة والمصرّين على استغلالها إعلامياً، لذلك فإنّه كان على المحكمة، منذ البدء، أن تنفض الفساد عن كاهلها، وأن توظّف أشخاصاً غير مشبوهين، لا سيّما الضبّاط المرتبطين بأجهزة استخبارات مختلفة.
وبدلاً من أن تعالج المحكمة الخلل الكامن في صفوفها، انتشرت على الأرض اللبنانية لتدارك هذا النشر المخالف لمفهوم العدالة، لعلّها تُبْقي لديها أملاً بالحياة فترة زمنية جديدة، باعتبار أنّها تدرّ أموالاً طائلة على العاملين فيها من قضاة، وقانونيين، ومحامين، وأمنيين، وموظّفين، ليس بالسهل عليهم، إيجاد فرص عمل مماثلة برواتب مرتفعة يسيل لها اللعاب.
كما أنّ تحرّك المحكمة جماعياً، بوصول مسؤولين منها إلى لبنان تِباعاً، بالتزامن مع قرع طبول التهويل بتعريض أصحاب الأسماء الواردة في لائحة الشهود للخطر، يؤكّد انحيازها.
فلو أنّها تصدّت منذ انتقال القضيّة إليها رسمياً من لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني عام 2009، لكلّ المتعاملين في تلويث سمعتها عبر انتهاك حرمة التحقيق بتسريب ما قيل إنّه معلومات واتهامات وتبيّن أنّه مجاف للحقيقة، لما خسرت من رصيدها المعنوي، وعمل المحاكم هو معنوي قبل أن يكون أيّ شيء آخر، فلماذا لم تنشط المحكمة وبكلّ ما لديها من قوّة ووسائل، لوقف التسريبات المضرّة بصحّتها؟
ولو أنّ المحكمة تكفّلت بمحاسبة كلّ شهود الزور والمفترين جنائياً الذين صنعتهم أيد لبنانية منغمسة حتّى نخاعها العظمي في العمل الاستخباراتي لمصلحة قتلة الحريري الحقيقيين، لما فقدت الكثير من شرعيتها، ولماذا لم تتحرّك المحكمة بثقلها، لملاحقة المعتدين على التحقيق من هؤلاء الشهود وصنّاعهم المعروفين بالأسماء الحقيقية وليست الوهمية أو الحركية؟
فهل نشر سلّة من أسماء الشهود، هو تمهيد لإعلان إفلاس المحكمة قانونياً وإذاعة بيان نعيها رسمياً؟