"النَأيُ بالنفس" هذه التعويذة السحرية الغامضة، لم يرِدْ لها ذِكرٌ في قواميس الحكم عندنا، ولم يكلِّفْ أحدٌ النفس مفتّشاً في المعاجم العلمية لمعرفة معنى "النأي" فيما هو مِنْ فِعْل نأى: أيْ بَعُدَ... وهو عَنْهُ بناءٍ.
ولأننا نحن بلدٌ عربيُّ فإننا معنيّون بما قيل: "العرب لا يقرأون"، أو "إنهم يقرأون بآذانهم"، وحين اكتفينا نحن بما ورد في الدستور بأن لبنان بلدٌ عربي "الهوية والإنتماء" تخلّفْنا عن عروبة اللسان، وتخلّفنا عن إمارة اللغة، وتخلّفت السلطة عن القراءة، اللهمّ إلاّ قراءة "الشيكات" المحرَّرة في بلاد النفط.
ونتيجة لسوء الفهم وخسوف العقل، وقع لبنان في هذا الخطأ الفاحش، وبدل أن يكون النأي بالنفس عن كلِّ خارج لبنان، أصبح النأيُ بالنفس عن لبنان نحو كل ما هو خارج، بما في ذلك الخارج السوري والخارج السعودي، والإيراني والأميركي والروسي، وأكاد أقول الإسرائيلي "يا ربُّ بلا كُفْر..."
ولأن الناس على دين ملوكهم حيال ما هو نأيٌ بالنفس، فقد نأى "حزب الله" بنفسه ليقاتل دفاعاً عن أهلنا في سوريا. وقرَعَ الشيخ أحمد الأسير طبول الجهاد من صيدا دفاعاً عن أهلنا في "القصير"، وأعلن الشيخ سالم رافعي من طرابلس فتوى التعبئة في صفوف أهل السنة لنصرة أهلنا في الشام، وليُطْلقِ النفير للحملات الصليبية دفاعاً عن أهلنا في سائر المشرق، وإطلاق المطرانين المخطوفين في حلب: وابشروا أيها الذين آمنوا بمهرجانات الدم يُسفك همجياً بين من خلقهم الله على صورته.
وبحسب أهداف الدولة الفاضلة في جمهورية أفلاطون تطور النأي بالنفس الى نأيٍ عن السيادة وعن الحق الوطني والدستور، وعن تأليف الحكومة وقانون الإنتخاب وصولاً الى الفراغ المطلق، كأنما كُتِبَ على لبنان أن يبقى في غيبوبة عن الوعي، وأن يظل يشرب نخْبَ صحّة الآخرين حتى يفقد صحته.
ومثلما كان في قصر بعبدا إعلان يدعو الى النأي بالنفس، هكذا، وعملاً بمعاهدة الأخوّة والتعاون، أطلق الرئيس بشار الأسد من قصر المهاجرين في دمشق إعلاناً آخر، خلال لقاء مع الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية، لا نأيَ بالنفس فيه عن: "مهادنة المجموعات التكفيرية الإرهابية" .
وأبشروا أيها المؤمنون عند اشتداد وطيس المعارك في سوريا بانتقال المجموعات الإرهابية الى حيث مَنْ نأوا بأنفسهم عن مسؤوليتهم اللبنانية، وبتهجير نحوٍ من ثلاثة ملايين سوري الى لبنان كما تشير الإحصاءات، يضافون الى نصف مليون فلسطيني وأكثر، بمن فيهم جبهة النصرة وجبهة القاعدة وجبهة الإخوان، والجبهة السلفية والوهابية وجند الشام، وجبهة الحرس الثوري، وكل ما جمعت الميادين الثائرة من جبهات معصوبة الجباه بالشرائط السود على الرحب والسعة، "نحن الضيوف وأنت رب المنزل".
بهذا الزحف على لبنان، يكون القضاء على آخر معالم الحضارة في بلاد الشرق، كما كان انقضاض البرابرة على إيطاليا قديماً فتهجَّر سكان روما، وتشوهَتْ معالم الحضارة في بلاد الغرب.
أمام هذا المشهد المرعب تفضلوا أيها المتبارزون حيال أجناس ملائكة اليونان، واختاروا ملائكة حكومية تواجه استحقاقات المرحلة، فإذا لم تكن حكومتكم على غرار ملائكة النبي الذي نُقِلَ عنه قوله: "لي وزيران من أهل الأرض هما أبو بكر وعمر، ووزيران من أهل السماء هما جبرائيل وميكائيل..."، فلا بأس أن يُضاف عزرائيل الى التشكيلة الحكومية المنتظرة، لعلنا ننتهي من عقدة الحكومات التي لا تَقْرأ، والعقدة التي إسمها النأي بالنفس.