كلُّ شيءٍ في الحياة ينبع من إرادة الإنسان، مهما كانت نتيجته إيجابيَّة أم سلبيَّة. كلُّ إنسانٍ هو على صورة الله ومثاله، مهما كان لونه أو دينه. كلًّ مسيحيٍّ معرَّضٌ للشهادة الإيمانيّة مهما كان كاثوليكياً أم ارثوذكسيّاً. لكن فوق كلّ شي تبقى الكرامة الإنسانيّة، مهما كانت الظروف والمِحَن والأوضاع.
رَجلان جليلان، صاحبا العباءة السوداء، خلال مسيرتهما سوياً، نقلهم البعض من طريق هذه الحياة إلى حياةٍ لا معرفة بمصيرها، من الدفاع عن الآخرين لطلب المدافعة عنهم، من التبشير بالصليب إلى حمل الصليب، من خبرة عَيش الأبوّة الأسقفيّة إلى اختبارعيش حياة الاعتقال. رَجلان أسيران، مصيرهما كباقي الأسرى، هما اللذان بذلا حياتهما من أجل الآخرين تُبذل اليوم الجهود لتحريريهما من الاعتقال، هما اللذين عانقا المسيحيَّة يتذكرا الآن الرسل والقديسين والشهداء يوم عنائهم في السجون، هما اللذان نطقا بالارثوذكسيّة يُعانيان الاعتقال لسبب ايمانهما.
صلوات رُفعت، نداءاتٌ توجِّهت، استنكراتٌ تعالت، ابتهالاتٌ رُنِّمت، عمَّت العالم أجمع، وإذ بالمطرانَين الجزيلَين ما زالا خارج أبرشيتهما منذ حوالي شهر بسبب اعتقالهما. بإرادةٍ واعيةٍ، بتخطيطٍ مُسبقٍ وبتنقيذٍ مُدبَّرٍ، قد تمَّ خطفهما.
فكما أنَّ القضية الفلسطينيّة قضيةٌ تخصُّ كلَّ العرب، وكما أنَّ قضيَّة إختفاء الشيخ موسى الصدر قضيَّة هزَّت الجميع خاصة أبناء الطائفة الشيعيّة، وكما أنَّ قضيَّة اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري اهتمَّ بها الكثير لا سيما أبناء الطائفة السنيَّة. كذلك فلتكن قضية اختطاف المطرانَين (بولس يازجي ويوحنا ابراهيم) قضيَّة تخصّ الجميع وليس فقط أبناء الطائفة الارثوذكسيّة لانَّها قضيَّة إنسانيّة بامتياز، قضيَّة ضمير، قضيَّة كلّ إنسان مسيحي أو مسلم أو درزي، قضيَّة كلّ سوري وعربي ومهاجر.
إنّهم إخوةٌ لنا في الإنسانيَّة، إنَّهم إخوةُ لنا في المسيحيّة، إنَّهم إخوةٌ لنا في الشهادة للحق.
الأجيال الصاعدة تتربَّى على التربية المدنيّة وعلى نشر السلام والمحبة وقبول الآخر. الأديان تلقِّن أبنائها حبّ الله والآخَر وعمل الخير. العائلة تدعو للأخوَّة والمصالحة والعيش المشترك. أمّا الإنسان فهو صورة مصغَّرة لله على الأرض.
نداؤنا بعد مرور شهر على اختطافهما، ليس لتحريرالاسقفين الجليلين فقط، بل لتحرير كلِّ إنسانٍ مأسور، لتحرير قلب كلّ أمٍّ تنتظر بشوقٍ إلى رؤية ابنها محرَّرا، لتحرير ضمير كلِّ إنسانٍ من العبوديّة الاستغلاليّة، لتحرير كلِّ أرضٍ من محتلّيها ولتحرير كلِّ محاربٍ من سلاحه.
صلاتنا ستتواصل وأملنا بعودتهما سيستمر، لكن ضمائرنا تناشد دائماً ضمائر الخاطفين لكي يحرَّروهما ليعودا إلى قطيعهما. أصواتنا تناشد اليوم كلَّ مسؤولٍ وكلَّ إنسانٍ شرقيّ أو غربيّ ليقف وقفة ضمير عن صمته ويقوم بما يجب أن يقوم به تجاه الأسرى اخوته في الإنسانيّة.
نتنظر اليوم الذي تعودان فيه إلى صرحكما أيها الأسقفان اللذان بذلتما وتبذلان حياتكما من أجل وطنكم، ننتظر اليوم الذي تنشد به كنيستكما "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلَّل به"، ننتظر اليوم الذي به تستعيدا حريتكما وكرامتكما الإنسانيَّة.