لا يمكن منفذي الاستطلاعات أنفسهم تفسير التغيرات في مزاج الرأي العام خلال أسبوعين لا أكثر. وفيما كان خرق قوى 14 آذار مضموناً بثلاثة مقاعد في المتن الشمالي، قلبت موازين «الأرثوذكسي» كل المعادلات لتضيف إلى رصيد التيار الوطني الحر خمس نقاط. كان لا بدّ لقوى 14 آذار من استدراك هول الخسارة الانتخابية الآتية: أهلاً بالتمديد!
في سابقة هي الأولى من نوعها، عمدت مختلف الأحزاب اللبنانية إلى استلحاق استطلاعات آرائها السابقة التي لم تتجاوز حدود الشهر باستطلاعات أخرى مطلع الأسبوع الجاري. هنا كانت «فاجعة» 14 آذار الانتخابية: صدقت الرابية، والكتائب إلى جانب القوات و«دولة» النائب ميشال المر لن يكون بمقدورهم دخول مجلس النواب معاً لأربع سنوات مقبلة. سريعاً أبلغت الماكينة القواتية في المتن الشمالي قيادتها وحزب الكتائب تالياً، بالمصيبة القريبة المدى إذا ما أُجري الاستحقاق النيابي في موعده. هرعت معراب وبكفيا وبتغرين للدعوة إلى قمة ثلاثية طارئة للتداول بآخر المعطيات على الأرض المتنية. تناقلوا السؤال مداورة: «كيف للتيار الوطني الحر أن يكسب في أسبوعين خمس نقاط إضافية، فيرفع نسبة تأييده من 33 إلى 38%، بينما نرزح جميعنا دون الـ 25%؟ والأهم من ذلك كله أن معظم الأصوات المكتسبة، من المستقلين الذين كانوا يقترعون سابقاً لمصلحتنا». وهذه الأرقام تستند إلى استطلاع رأي أجرته ماكينة القوات اللبنانية في المتن.
كان لا بد من خطة بديلة لتطيير الانتخابات، ولو على حساب خسارة إضافية في الرأي العام المسيحي، وخاصة أن المؤشرات في المتن لا تختلف عن الدوائر الانتخابية الأخرى: لنصوت جميعنا للتمديد إذاً. عقدت قوى 14 آذار اجتماعها على عجل ليل أول من أمس. «لا خيار أمامنا سوى المراهنة على الوقت ليمحو آثامنا، وأصلاً لائحة مرشحينا تضيف إلى مصائبنا مصيبة جديدة»، هذه هي العبارة التي لم يقولوها، لكن معظمهم كان يتحدّث عنها في الجلسات الجانبية.
في المتن الشمالي، عاش النائب سامي الجميّل أسوأ لياليه، مجموعة من الكوابيس اجتاحت أحلامه الوردية. فالأخير، وفقاً لنتائج الاستطلاعات الحديثة الولادة، لن يكون أمام معركة سهلة كتلك التي كانت تبشره بها استطلاعات الأشهر الماضية. إنها «الكارثة»! انقلبت موازين القوى في يوم وليلة لتهز عرشه في آخر معاقله السياسية. يجب المبادرة إلى الفعل إذاً. انتهى عصر المزايدات الجميليّة. لا إمكان هنا للمراوغة. بلمسة سحرية، تحول «المشايخ» إلى مدافعين شرسين عن التمديد «احتراماً لتداول السلطة»، متذرعين بعدم جواز إجراء الانتخابات وفق قانون الستين. وكأن التمديد هو لمجلس لم يُنتَخب وفق «الستين». لا مشكلة هنا مع المر الذي أنكر «الأرثوذكسي» في لحظات الولادة الأولى، ساند الجميّل في تضرعات التأجيل هو أيضاً. فالدراسات واضحة في نتائجها: لا خرق حتى باسم واحد في المتن الشمالي. فيما خمّر رئيس حزب القوات التمديد طويلاً في عقله، لينطق بضرورته في المكان والزمان المناسبين. وأصلاً لا يعنيه المتن كثيراً بقدر ما يولي أهمية للأقضية الأخرى المثقلة بالقاعدة القواتية. فلا ضير من بيع الموقف للكتائب تعويضاً عن إطاحة ملاحظاته في ما خص القانون المختلط.
طواحين «الشيخ»
إلى جانب النكسات المتتالية، نكسة مرشحين لا تقلّ ضرراً عن سابقاتها. كيف السبيل إلى خوض الانتخابات بمرشحين مماثلين؟». سأل الثلاثة بعضهم بعضاً. نظر المر إلى الفتى الكتائبي، سائلاً إياه عن هوية مرشحه عن أحد المقاعد المارونية، مارون أبو جودة. فنائب بتغرين عجز في الساعات الأربع والعشرين الماضية، رغم الداتا الكبيرة التي في حوزة «عمارة شلهوب»، عن إيجاد دليل واحد على وجوده لولا قراءة اسمه ضمن لائحة مرشحي الكتائب المقدمة إلى وزارة الداخلية. أهي مناورة من الجميّل لضمان خرقه وحيداً؟ لا جواب شافياً من «الشيخ»، فقط بسمة صغيرة رغم الوجوم الذي يشد أسارير وجهه. يرخي الجميّل ربطة عنقه للإجابة عن السؤال الآتي. الدور الآن للقوات. طويلاً، صرخ الجميّل ضارباً بكفه الناعمة على طاولة المفاوضات: الأمر الكاثوليكي لي بعد أن ارتدت المعركة الطابع الشخصي مع استمرار رئيس مجلس الأقاليم السابق في حزب الكتائب ميشال مكتّف بترشحه. فكيف السبيل إلى قصقصة أجنحة الصهر السابق والكتائب لم ترشح كاثوليكياً واحداً على لائحتها، ومنعت في المقابل القوات وقوى 14 آذار من تزكية أحد؟ والأسوأ من ذلك كله أن اعتماد أي من المتقدمين بطلبات ترشيحهم إلى الداخلية من «المغمورين» الذين يدورون في فلك 14 آذار سيُسهم في سلب اللائحة نقاطاً إضافية. يتكرر السؤال بصيغة أخرى: من هم فيليب معلوف وميشال حداد وأنطوان حداد وسلمان سماحة وكميل كفوري ومخايل الرموز؟ هؤلاء عاجزون عن كسب أصوات عائلاتهم، فكيف السبيل إلى خوض تلك المركة الانتخابية القاسية بواحد منهم لكسر «عضم» مكتف؟ خلاصة الاجتماع ارتسمت بوضوح على ملامح الثلاثة: التمديد أولاً.
أخيراً اقتنع الحلفاء بأن ما قبل الأرثوذكسي ليس كما بعده. واستطلاعات ما قبل «الانقلاب» على التوافق في موازين الرأي العام ليست حتماً بالتأييد ذاته. ففي آخر استطلاع للرأي منذ نحو ثلاثة أسابيع، حظي التيار بنسبة 33% من التأييد المتني، فيما استطاعت قوى 14 آذار مجتمعة كسب أصوات 32% من المقترعين، بينما بلغت نسبة المستقلين 18.9%، وأغلبيتهم يحسمون خيارهم في اللحظات الأخيرة لمصلحة اللائحة الآذارية. لذلك تمكن سامي من مزاحمة النائب إبراهيم كنعان على رئاسة لائحة الاستطلاعات، إذ لم يتعدّ الفارق بينه (51.4%) وبين كنعان (51.9%) سوى 0.5%. يليهما كل من النائب نبيل نقولا (41.7%) وسليم سلهب (41.2%). ومع عزوف سلهب عن الترشح، كان أكيداً خرق سركيس سركيس (28.5%) للمقعد الماروني الرابع إلى جانب سامي. يضاف إلى هذين الخرقين، خرق ثالث لمصلحة النائب ميشال المر، ثاني الأرثوذكسيين (45.3%) بعد النائب غسان مخيبر (48.9%). فيما كاثوليكياً، كان احتمال الخرق مستحيلاً مع تصدّر مكتّف لقائمة الكاثوليكيين بنسبة 24.5% مقابل 17.3% للمرشح العوني شارل جزرا الذي يليه في التراتبية، الأمر الذي يدفع المستطلعين إلى القول بانقسام قاعدة قوى 14 آذار بين مرشح اللائحة الثابت ومكتف المنفرد، ما يحسم النتيجة لمصلحة جزرا حتماً. إلا أن كل احتمالات الخرق والربح المكتسب بمقعد إضافي عن عام 2009، قتلت في مهد «الأرثوذكسي»، والسبيل الوحيد إلى تغطية العورات بالتلطي وراء التمديد. فبعد عام ونصف «يخلق الله ما لا تعلمون».