فشلت الولايات المتحدة في تنظيم العالم الجديد وفقاَ لمآربها وخططها. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي أعلن بوش الأب عن بداية نظام عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة، وبدأت سلسلة من الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية في كل من شرق أوروبا وآسيا وأفريقيا. هذه الحروب أغرقت الولايات المتحدة في عالم لا تستطيع استيعابه، خصوصاً في ظل وجود قوى تمتلك الثقافة والاقتصاد والتاريخ والجيو-سياسة، وما يمكّنها من الوقوف في وجه التسونامي الأميركي على العالم. سقوط الاتحاد السوفياتي فضح القدرات الأميركية/الرأسمالية، وجعلها تنوء تحت الأعباء التي اختارتها الرأسمالية المتوحشة للهيمنة على مقدرات العالم وقراره السياسي.
برزت قوى كبرى تصدت للهجمة الأميركية، وعملت بصمت وروية وإرادة.. من هذه القوى: الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وجنوب أفريقيا، وحتى الهند، ولم تستطع أوروبا الجديدة/القديمة أن تفعل للولايات المتحدة الشيء الكثير، لا بل جرّتها الولايات إلى أزمات اقتصادية رهيبة، عبّر عنها أحد وزراء المالية الأوروبيين بأنها مؤامرة رأسمالية أميركية على العالم. لهذا يمكن القول إن العالم القديم - بما فيه الولايات المتحدة - انتهى وعالم جديد يتبلور وينشأ.
أوروبا وأميركا والاتحاد السوفياتي (سابقاً) كانوا من العالم القديم الذي ينزاح عن هيمنته المتدرجة، لكن القوية والسريعة، ويئن من جراحه التي رمي نفسه والعالم بها نتيجة جشعه وعدم احترامه للإنسان والقضايا العالمية المحقة. عالم جديد يقوى ويتعزز في السياسة والاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا، كدول "البريكس" الخمسة، وإيران وغيرهم.
شهد العالم سقوط الإمبراطوريات بصورة تدريجية، وهذا ما نشهده على آخرها الإمبراطورية الأميركية.. لماذا ستشكل سورية المعركة الأخيرة في صياغة عالم جديد ونهاية عالم قديم؟
اعتبر المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الخاسر؛ ميت رومني، أن إدارة أوباما الديمقراطية تتخلى عن دور الولايات المتحدة في قيادة العالم، نتيجة عدم تدخلها إلى جانب المعارضة المسلحة في سورية، وقال إنه إذا فاز في الانتخابات الرئاسية سيبحث مسألة التدخل العسكري، من خلال مساعدة المجموعات التي "تتفق مع قيمنا"! (أي مع القيم الأميركية)، وما علم رومني أن القيم الأميركية التي دخلت أميركا العالم بموجبها، خصوصاً مع مبادىء ويلسون الأربعة عشر، قد ماتت وتم دفنها بعد أقل من قرن، والدولة التي نادت بحق تقرير المصير هي أول من داس على هذا الحق، من خلال الموافقة على وعد بلفور البريطاني، الذي شرعن اغتصاب فلسطين بمساعدة أميركية جامحة.
لقد بدأت الولايات المتحدة تخسر من وجودها القوي في المنطقة، وتنشأ قوى جديدة محلية جاهزة بقوتها وثقافتها وتاريخها، وما اتفاقات أميركا الاقتصادية والأمنية مع بعض الدول المتخلفة في المنطقة إلا برهان على عدم أهليتها لتسويق مشاريعها، إضافة إلى تلطّي أميركا وأوروبا وراء "القاعدة وأخواتها"؛ أصحاب الثقافة التكفيرية، خصوصاً في سورية والعراق، إلا برهان ساطع على عدم قدرتها على تمرير ثقافتها ومخططاتها. سقطت أميركا في القضية الفلسطينية، وفي العراق ولبنان، وفي أفغانستان، وفي دول القوقاز، وهي لم تفلح أصلاً في أفريقيا، ولا حتى في حديقتها الخلفية دول أميركا اللاتينية، فدولة الباطل لا يمكن أن تساعدها الحجة على قول الحق وقضاياه، وشرعة القوة لها نهاية، خصوصاً إذا كانت ستستخدم العصا مع جميع أنحاء العالم. المهم أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك مفاتيح مجلس الأمن كي تسرق منه ساعة تشاء أو تستل منه ما تريد من قرارات، خصوصاً إذا كانت هذه القرارات تمسّ في جوهرها إحدى القوى الصاعدة إلى العالم الجديد، كروسيا الاتحادية، ولا ننسى الصين العملاقة أيضاً. قال بوتين في رد مباشر على محاولات أوروبا وأميركا استصدار قرار إدانة بحق سوريا في مجلس الأمن، بعد مجزرة الحولة المروعة، والتي لم يقتنع الروسي ولا آخرون بأن النظام هو من ارتكب هذه المجزرة: "إن الذي يقرر في سورية يقرر في روسيا"، وهذه إشارة لا تحتاج إلى "شطارة" كي يستبطن السر الذي تقف فيه روسيا موقفاً مؤيداً للنظام في سورية برئاسة بشار الأسد، سورية التي تمتلك بُعداً استراتيجياً كبيراً، ومكانة للدول والشعوب المعارضة للهيمنة الأميركية والناتو الأوروبي، الذي يقوده الآن عسكري أميركي. كما أن الصين اعتبرت في أكثر من تصريح على لسان خارجيتها بأن السماح بالتدخل العسكري لتغيير النظام سيؤدي إلى ضرب مصداقية مجلس الأمن والنظام الدولي. تدرك الخارجية الصينية وكذلك روسيا أنه لم يعد هناك مصداقية لمجلس الأمن حيث استباحته الولايات المتحدة.
رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي؛ مرشح الرئاسة في إيران الذي زار سورية واجتمع مع الرئيس بشار الأسد، اعتبر أن الحرب على سورية هي حرب على محور المقاومة والممانعة، ولن تقف إيران مكتوفة الأيدي أمام ضرب إحدى جبهات المقاومة والممانعة.
بعض الأنظمة العربية المتخلّفة، والتي لا تأنس من نفسها القوة على الخروج عن الطاعة الأورو-أميركية، لا بل هي علة وجودها، ما تزال تعلي من صوتها المطالب بسقوط النظام في سورية، لأمر غير معلوم؛ هل لأنها مع الديموقراطية؟ هل لأنها تريد الإصلاح في الدستور وحق الانتخاب؟ ولماذا تُغدق المال والسلاح على المجموعات المسلحة؟ ولماذا يذهب بعضها إلى روسيا والصين وإيران من أجل إغرائها ومحاولة رشوة بعضها من أجل الموافقة على سقوط نظام الرئيس الأسد؟ ومنذ متى تتخذ هذه الأنظمة مواقف سياسية أو اقتصادية تبعاً لهوية الأنظمة المذهبية، ناهيك عن الدينية، أم أنهم يريدون استخدام هذا الأمر شماعة لفشلهم في الوجود السياسي ضمن النظام العالمي الجديد خالياً من إملاءات أميركا وحلفائها؟ وهل يغتصب فلسطين إلا نظام صهيوني يدنّس كل مقدسات المسلمين والمسيحيين ويقتل ويشرد ويسجن في كل يوم منذ ما قبل اغتصاب فلسطين وحتى الآن؟ وهل أنهم يريدون تحرير القدس والأقصى الشريف وقام هذا النظام بمنعهم؟ أما مصر الجديدة، فهل استطاعت أن تأخذ موقفاً من إرث السادات، خصوصاً اتفاقية كامب ديفيد، والتي لم يقدم على مثلها لا الرئيس حافظ الأسد، ولا الرئيس بشار الأسد؟
أمام الدول العربية الجديدة التي انتفضَت فرصة الانضمام إلى العالم الجديد: إنكم تقفون مع دول متهالكة، كانت كبرى، هذه الدول هي التي شرذمتكم باتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، واستضعفتكم قرناً من الزمن.. هذه الدول لم ترأف بكم وتعترف حتى بدولة فلسطينية في غزة والضفة. السيد أوباما أول كلمة تفوّه بها في الحديث عن صحوتكم هو الطلب منكم الحفاظ على الاتفاقيات مع دولته، ومع ربيبتها الكيان الغاصب، هل تظنون أن التاريخ يستقبلكم وأنتم تضربون بسيف جلادكم؟ وهل تحلمون بتنمية وحرية وديمقراطية وإصلاح من خلال شراكتكم مع دول وصلت إلى لجة بحر الإفلاس وتعيش على الديون أكثر منكم. هذا العالم الجديد يحتاج إلى قيادات تتحدى وتصمد وتقاوم ولا تساير عدوها، وإلا كيف ستقدمون أنفسكم للتاريخ بعزة وافتخار، وهذه كانت شعارات ميادين الثورة في مصر خصوصاً، وتونس؟! كيف يهنأ لكم بال وأنتم ترون أن السلطات التركية وبعض الأنظمة المتخلفة من "الدول العربية" تقذف بأبنائكم من الشباب العربي - وحتى الشيشاني - إلى فوهة النار، وتدفع المليارات أنتم بحاجة إليها لتدفعوا رواتب للملايين من موظفيكم؟ إذا كنتم لا تعرفون الحرام ولا الحلال، على الأقل كونوا أحراراً وليس ألاعيب يتقاذفها برنار هنري لويس وفيلتمان وإليوت أبرامز وبندر وديفيد أوغلو. هل فعلاً تعتقدون أن هؤلاء يعملون من أجل حرية العرب، وتنميتهم وتطورهم، وتغيير الأنظمة رأفة بالشعوب؟
قوى المقاومة في لبنان وفلسطين تعرف هذا النظام، والمدى الذي سار فيه من أجل فلسطين والعروبة، فهل أنتم تعرفون أي نوع من الأنظمة تريدون بديلاً عنه في سورية؟ قبل الغزو "الإسرائيلي" للبنان عام 1982، كان أحد الزعماء اللبنانيين يقول خلال حربه ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1976، إنه سيأتي بالأسلحة من الشيطان ليقاتل الفلسطينيين، وكان يقصد "إسرائيل".. فهل فقدتم أي حس بخسارة أن تكونوا على خارطة الدنيا بعد قرن من الهزائم؟
قرأت مرة أنّ المرشح للرئاسة في الولايات المتحدة يهمه أمران: الأول، إذا فاز، أن يعاد انتخابه، والثاني أن يقوم بعمل كبير يفتخر به التاريخ الأميركي.. أين أنتم من التاريخ، وفلسطين بانتظاركم لا تفعلون شيئا لإنقاذها؟ وأين أنتم من الرياسة والقرار بيد أعدائكم؟
الواضح أن عالماً جديداً يبزغ فجره، لكنه بلا عرب أميركا و"إسرائيل"، لأنهم أول الساقطين.. إنه عصر المقاومة والجهاد الحقيقي ضد الأعداء الحقيقيين.. إنه عصر المقاومة التي وعد قائدها وسيدها بمزيد من الانتصارات.
إن بقاء سوريا حرة من الهيمنة الأميركية والغربية والصهيونية وقوى التكفير والشرذمة هو هزيمة كبرى للمشروع الاستكباري الصهيو-أمريكي، يساوي انتصار المقاومة على الصهاينة عام 2006، لا بل هو أحد تجلياته الباهرة.. عصر جديد نعم، شرق أوسط جديد نعم، ولكن مقاوم لقوى أضحت من القرون الوسطى بسلوكها السياسي والثقافي اللاإنساني.. عصر جديد لإنسان جديد، له فيه مكانه وحرية.. إنه عصر الشعوب، قالها الإمام الخميني العظيم (قدس سره).