...هناك، على طريق الشاحنات المحمّلة بالبحص والرمال، وقرب منعطف "الكسّارات"... هناك بين الجبال المتآكلة وحيث الحفر تملأ الطرقات... تصل إلى إحدى أجمل المساحات الخضراء في لبنان حيث تنبض حياة عشرات الكائنات وتزداد نمواً كل يوم مئات النباتات والورود والأشجار.
هذه الباقة الخضراء التي تمرّ بـ7 بلدات كسروانية، ما زالت مجهولة من قبل عدد كبير من اللبنانيين، وما زالت تظهر بخجل على الأدلّة السياحية، رغم أن لصمودها في محيط مستنزف من قبل أصحاب المصالح الخاصة، وأن لحمايتها بمبادرة أبناء المنطقة رسالة كبيرة، وكبيرة جداً.
6500 هكتاراً من التنوع البيئي
اسمها "جبل موسى"، وهي أكثر من مجرّد محمية طبيعية، بل هي محمية "المدى الحيوي" لأنها لا تهتم فقط بحماية النبتة أو الشجرة أو الوردة أو الحيوان بل أيضاً تهتم بتنمية المجتمع المحلي ومساعدته لكي يثبت في أرضه، وفق ما أكدت لـ"النشرة" المديرة الإعلامية في جمعية "حماية جبل موسى" كريستال أبو شبكة، مشيرة إلى أن الجمعية تأسّست عام 2007 لهذين السببين، التنمية المحلية وحماية الطبيعة، بمبادرة من شخصيات كسروانية فاعلة على المستوى الوطني والمحلي ومن مختلف الجهات السياسية.
ويقع "جبل موسى" في قضاء كسروان، على مسافة 45 كيلومتراً شمال بيروت، وتبلغ مساحتها 6500 هكتاراً. ويشرف الجبل على نهرين: نهر ابراهيم من الجهة الشمالية ونهر الدهب من الجهة الجنوبية. ويحيط به العديد من القرى، أهمها: قهمز، نهر الدهب، يحشوش، غبالة، العبره، التي ترتبط به عبر ممرات جبلية تسهل الوصول اليه. ويمكن الدخول إلى نطاق المحمية من 3 مداخل أساسية: مدخل بيدر الشوك (بلدة قهمز)، مدخل المشاتي، ومدخل الصنوبر (بلدة يحشوش).
ومنذ انطلاق مسيرة حماية الجبل عام 2007، تمكنت الجمعية من أن تستحصل على اسم غابة محمية من قبل وزارة الزراعة عام 2008، وفي العام نفسه حصلت على تسمية "منطقة أساسية لمرور الطيور" من قبل .bird life international وفي العام 2009 حصلت من اليونسكو على تسمية محمية "المحيط الحيوي" ضمن برنامج الانسان والمحيط، وبذلك أصبحت ثالث محمية للمحيط الحيوي في لبنان بعد محمية أرز الشوف وجبل الريحان. أما في العام 2012 فتم تصنيفها كموقع طبيعي خاضع لحماية وزارة البيئة.
هي إذاً مسيرة ناشطة لهذه الجمعية التي حصلت على دعم من سفارات أجنبية ومن جهات محلية عدّة لإقامة مشاريع متعلقة بالسياحة البيئية وبالسياحة الداخلية، الأمر الذي دفعنا إلى زيارة محمية "جبل موسى" لمعرفة سبب الإهتمام المحلي والأجنبي بهذه البقعة الخضراء الكسروانية. فقمنا بجولة في أرجائها برفقة أحد حرّاسها، العمّ جوزيف، الذي سار معنا لمدّة 4 ساعات من قهمز صعوداً نحو صليب يحشوش ومن ثم نزولاً إلى بلدة مشاتي ومن ثم صعوداً من جديد نحو بيدر الشوك.
"كل هذا موجود في لبنان؟"
أخبرنا العم جوزيف عن مغامراته وزملائه الحرّاس مع الصياّدين الذين "يدخلون إلى المحمية لأنهم يعرفون أنها مكان يرتاح فيه الطيور فيبدأون بقتلها"، مشيراً إلى "أننا نتواصل دائماً مع مكتب الجمعية قبل التحدث معهم لأنه في بعض الأحيان يقوم البعض بمهاجمتنا، أو يرفضون الرحيل... وحينها نتصل بالقوى الأمنية فيخرجون بسرعة". وأخبرنا أيضاً عن مهمّته الحراسية وأساليبه التي يطلب من خلالها من الرعاة مغادرة حدود المحمية مع قطيعهم... إلخ.
وبين الحين والآخر، كان يفسّر لنا عن نوع معيّن من الزهور النادرة أو عن "دعسة" الضبع الظاهرة على التربة الرطبة... فمنذ لحظة الدخول إلى تلك الغابة، لا يظهر أمام السائر إلا عذريّة الطبيعة وجمالها الصافي حتى يتساءل: "كل هذا موجود في لبنان؟" ولكن سرعان ما يتلاشى هذا التساؤل، إذ يجيبه المنظر الخلاب من تلّة صليب يحشوش الذي يطلّ على هضاب كسروان والذي لا يحدّه إلاّ أفق البحر الأبيض المتوسط فيقول: "نعم... أنت ما زلت في وطن الأرز!"
لم تكن الطريق سهلة، ولكن أكثر من ألفي عاشق للطبيعة مشى عليها هذا العام، وهذا الرقم مرجح لأن يرتفع أكثر فأكثر بحسب أبو شبكة، التي لفتت إلى أنه ومنذ العام 2010 يتم العمل على تحفيز السياحة البيئية في المحمية، "فبدأنا بـ50 زائراً في السنة أما اليوم وبعد 3 سنوات، فقد ارتفع العدد بشكل كبير".
إرث بيئي... وثقافي
تمتاز هذه المحمية بتنوعها البيولوجي، فهي تحتوي على 215 نوع من الشتول المختلفة، وعلى 20 نوع من الاشجار ومنها 11 نوعاً من الاشجار التي يتفرّد بها لبنان، وعلى أكثر من 700 نوع من الزهور. كما أنه تم اكتشاف أكثر من 16 نوع من الثديات، ومنها الضبع والذئب والطبسون، وذلك بعد وضع كاميرات ليلية لمراقبة المحمية وبعد أن قام باحثون متخصصون بدراسة النبات والحيوانات.
وفي هذا الإطار شرحت أبو شبكة أن "قرار حمايتنا للجبل لم يأت عشوائياً، فالجميع يعرف أنه محميّ بسبب الدراسات الدقيقة التي أكدت غناه وفرادته"، مشيرة إلى أن ما رأيناه في جولتنا هو منظر يتبدّل كل شهر... فالطبيعة هناك تتجدّد باستمرار وتتغير لتكتسي ثوباً جديداً مع كل تغيّر مناخي.
ولكن، إلى جانب هذا الغنى الطبيعي، تحتوي هذه المحمية على إرث ثقافي وطني: من منازل أثرية قديمة أحدها معروف بمنزل البطريرك لأنه يقال أن أحد البطاركة كان يسكن هناك، إلى نقوش من عهد الامبراطور هادريان وهي تعرف بأنها أول محاولة لحماية الأشجار لأنها نقوش تمنع قطع 4 أنواع من الشجر من غابات لبنان. وإلى جانب ذلك، يمكن للسائح رؤية خزان مياه تحت الأرض، وآبار قديمة، ودرج روماني كان يستخدم بين العامين 64 ق.م و249 ب.م كشبكة طريق تربط الشاطئ بالداخل مروراً بالجبال. ويمكن اعتبار هذه المحمية أيضاً مركزاً للسياحة الدينية، ففيها موقع الصليب الذي يسير باتجاهه في عيد الصليب في 14 أيلول عدداً كبيراً من أبناء المنطقة كتقليد سنوي. ويقع في نطاق المحمية أيضاً دير مار جرجس الذي شيّد في القرن الرابع عشر على يد راهب من آل زوين.
مسارات المحمية محدّدة وفق خارطة توزّع على الزائر عند الدخول، ولكن أبو شبكة تنصح بالإتصال بالجمعية قبل التوجه إلى المكان وذلك حرصاً على سلامته، فهي تؤمن له مرشداً أو أحد الحرّاس لمرافقته لكي لا يتوه من جهة ولحمايته في حال حصول أي طارئ من جهة أخرى. وتعتمد الجمعية هذه السياسة أيضاً لحماية الغابة من الحرائق أو من أي تعدّ ومن رمي النفايات فيها أو تشويهها... وتضمن بذلك عدم خروج السائح عن المسارات المحدّدة مما قد يضرّ النبات الموجود. وفي كل الأحوال، أكدت أبو شبكة أن "ليس هدفنا السياحة الجماهرية"، مشددة على أن "نسعى من خلال الدعوة لإعلامنا قبل التوجه إلى المحمية إلى تسهيل أمور السائح الذي نعامله كصديق". وفي حال وصول مجموعة بشكل مفاجئ فإن حرّاس الغابة هم الذين يرافقونها.
مشاريع عديدة لتنمية المجتمع المحلي
منذ إعلانها محمية وحتى اليوم، قامت جمعية "حماية جبل موسى" بعدد من المشاريع الإنمائية والبيئية. وفي هذا الإطار، شرحت أبو شبكة مشروعين منهم: مشروع دعم المجتمع المحلي، ومشروع المشاتل.
الأول بدأ عام 2011 بعد دراسة أجريت في الجبل على 1000 منزل، تم من خلالها اكتشاف أن عدداً كبيراً من ساكني البلدات التي تمر بها المحمية لا يعملون، وفي الوقت نفسه يبرعون بالمونة والأشغال الحرفية. فقامت الجمعية، بالتعاون مع السفارة الأميركية، بتدريب 40 امرأة محلية على انتاج المونة وإقامة دورات لهنّ بالطبخ مع متخصصين لإرشادهم على كيفية انتاج المونة بشكل موحد. وتسهل لهم الجمعية اليوم الإنتاج وفي الوقت نفسه تشتري منهم كل ما يتم إنتاجه وتسوقه هي على عاتقها "لأن الهدف هو أن يستفيد أبناء البلدات المحيطة بالجبل"، بحسب أبو شبكة.
وخلال جولتنا في المحمية اقترح علينا العم جوزيف الإطلاع على منتجات المونة، فدخلنا إلى أحد المنازل في الوادي حيث عُرضت علينا أنواع عدّة من المربى ومن سائر المنتجات كالزعتر واللبنة... ورداً على سؤالنا حول إذا ما كان مربّى التفاح لذيذاً قالت لنا ربّة المنزل بفخر واعتزاز: "ولو... هول من إيدين ستّات مطبخ جبل موسى!"
أما بالنسبة لمشروع المشاتل، فأوضحت أبو شبكة أنه يهدف لإنماء المجتمع المحلي أيضاً ولكن لديه هدف بيئي كبير وهو: إعادة تشجير لبنان.
فمن خلال هذا المشروع، يقوم الأشخاص المهتمين بالمشاتل بإعادة زراعة البذور التي يجمعونها من الجبل، ومن ثم بيع الشتل إلى الجمعيات، وبذلك يكون قد استفاد مؤجّر الأرض، والعامل في المشتل، والجمعيات، ولبنان ككل... وقد بدأ هذا المشروع أيضاً عام 2011. وبالإضافة إلى هاذين المشروعين، مشاريع مستقبلية كثيرة تنتظر الجمعية في المستقبل القريب.
اسم الجبل... سرّ غريب وغامض
وقد يكون أكثر ما يميّز هذه المحمية اسمها الغريب والغامض الذي لا يعرف أحد حتى الآن سببه. وشرحت أبو شبكة أن الخبريات في البلدات "غريبة عجيبة" كلّ يختار التي تعجبه أكثر: فمنهم من يقول أن عصا موسى موجودة في الجبل ولذلك اسمه جبل موسى... وأمور أخرى كثيرة "حدث بلا حرج". وتبقى هذه التسمية سرّاً كبيراً يحيّر المؤرخين.
أما الحيوان المميز في المحمية فهو طبسون طبسون، وهو ابن عم الفيل. يعيش ضمن عائلة يكون فيها الطبسون القائد حريصاً على ألا تتعرض عائلته للخطر، فيطلق صوتاً غريباً في حال احساسه به. وقالت أبو شبكة أن هذا الحيوان تميّز عن سائر الحيوانات في المحمية "لأن أحد السائرين بالجبل التقى بعائلة منه، وهو الكاتب نجيب قصار الذي قرر إعداد كتاب للأطفال اسمه طبسون طبسون لكي يقترب تلامذة المدارس من حيوانات المحمية". وهذا الكتاب يوزع مجاناً لـ25 ألف تلميذ في المدارس الرسمية في كل لبنان في صف الثاني ابتدائي، ويوزع مجاناً أيضاً لتلامذة الثاني ابتدائي في مدارس كسروان الخاصة.
من الصعب أن تنقل الكلمات كل ما تراه العين في الـ6500 هكتارات هذه... فالطبيعة اللبنانية يمكنها بحد ذاتها أن تكون أكبر متنفّس سياحي لكل المواطنين. فليس محكوما على اللبناني في بلد تقفل فيه الأحراش أمام عامة الناس وتباع فيه الأملاك العامة "بالرخص" ويُسرق فيه من الناس "بحرهم وبرّهم"، أن يتسلى فقط في أروقة الأسواق التجارية وفي المجمعات السياحية أو في المطاعم والمقاهي الشعبية، بل يمكنه أيضاً الإتجاه نحو السياحة الداخلية... السياحة البيئية... فحتماً هنالك كنوز كثيرة في بلده لم يكتشفها بعد!
الصور لجمعية "حماية جبل موسى"
للمزيد من الصور الاطلاع علىالألبوم الخاص