كما كان متوقعاً اثر توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وصل المفاوض الفلسطيني الى معادلة مختلة تماماً لصالح الكيان الصهيوني لا يملك فيها أي ورقة من أوراق القوة التي كان يملكها في المفاوضات التي أنتجت أوسلو.
ولهذا رفضت الحكومة الإسرائيلية، كما فعلت أثناء مفاوضات أوسلو، أي تراجع عن خطوطها الحمراء التي رسمتها بما خص قضايا الوضع النهائي : القدس، المستعمرات، حدود الدولة الفلسطينية واللاجئين وأعلنت انه لا مساومة على بقاء القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، والمستعمرات لن تفكك وحق عودة اللاجئين مرفوض جملة وتفصيلاً، وحدود الدولة الفلسطينية تحددها حدود الأمن الصهيوني التي تجعل منها مجرد فيدرالية ضمن الدولة الصهيونية، وفوق ذلك، وضعت الحكومة الإسرائيلية الى جانب رفض تجميد الاستيطان شرطاً جديداً، وهو الاعتراف مسبقاً بإسرائيل دولة يهودية.
أمام هذا الواقع الجديد، وجد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، صعوبة في اقناع الجانب الإسرائيلي بتجميد المستوطنات كشرط لاستئناف المفاوضات، حيث قال مسؤول إسرائيلي، إن رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو لن يعلق خلال فترة ولايته الثانية أي تجميد للبناء في المستوطنات المقامة في الضفة الغربية كخطوة لاستئناف محادثات التسوية مع السلطة الفلسطينية، في حين ذكرت الصحف الإسرائيلية أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حصل على هذه الفرصة مرة واحدة، ولن يحدث ذلك مرة أخرى، واذا كان الفلسطينيون يريدون التحدث إلينا فهم يعرفون أننا ننتظرهم على طاولة المفاوضات.
هذه النتيجة دفعت وزير الخارجية الأميركي الى طرح خطة اقتصادية أعدها لصالح السلطة الفلسطينية وتقضي بانعاش الضفة الغربية اقتصاديا مقابل استئناف المفاوضات من دون شروط مسبقة، أي كما تريد إسرائيل.
وحصل ذلك في وقت كشفت فيه منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية أن نسبة اطلاق عمليات البناء في المستوطنات في الضفة الغربية خلال الفصل الأول من العام الحالي هي الأعلى منذ سبع سنوات.
ان هذا التطور في مسار المفاوضات يؤكد جملة من الأمور الهامة التي نتجت عن تجربة سلوك طريق أوسلو، وأدت الى جعل الحكومة الإسرائيلية تزداد تشدداً وترفع شروطها التفاوضية مع السلطة الفلسطينية، وتتصرف بطريقة غير المكترث باستئناف المفاوضات، الا اذا كانت على القاعدة والأسس التي تريدها هي.
أولا: أن المفاوض الفلسطيني (منظمة التحرير) بعد عشرين عاما على توقيع اتفاق أوسلو بات مجرداً من كل أوراق الضغط التي كانت بحوزته قبل الاتفاق.
فالمنظمة مقابل أوسلو تخلت عن جميع أوراق قوتها وهي:
1 ـ ورقة التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني بكامل أرضه الفلسطينية المحتلة من النهر الى البحر، عندما تخلت عن الأراضي المحتلة عام 48، واعترفت بشرعية الدولة الصهيونية فيها، وقد أدى هذا الاعتراف الى اضعاف التضامن الدولي، العربي والاسلامي مع القضية الفلسطينية، ومكن إسرائيل من اقامة العلاقات الدبلوماسية مع الكثير من دول العالم في آسيا وأفريقيا، والتي كانت ترفض اقامة هذه العلاقات، وتؤيد نضال الشعب الفلسطيني.
2 ـ التخلي عن ورقة المقاومة المسلحة، حيث أوقفت منظمة التحرير المقاومة المسلحة وتولت أجهزة السلطة لعب دور لجم حركات المقاومة وملاحقة واعتقال كوادرها، الذين رفضوا الالتزام بقرار وقف المقاومة المسلحة.
3 ـ التخلي عن ورقة الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال، وقد أعلن محمود عباس في اكثر من مناسبة انه ليس فقط ضد المقاومة المسلحة، بل وأيضا ضد الانتفاضة الشعبية التي تستخدم سلاح الحجارة في مواجهة ارهاب وبطش المحتل، واستيلاء المستوطنين على أراضي الفلسطينيين.
ثانياً: أدى اتفاق أوسلو الى فك الترابط بين المسارات التفاوضية العربية، وجعل المفاوض الفلسطيني رهينة الاستفراد الصهيوني الأميركي الغربي، وهو ما اضعف موقف المفاوض الفلسطيني في مواجهة الموقف الإسرائيلي.
ثالثاً: فقدان السلطة الفلسطينية لأية استقلالية في اتخاذ قراراتها، بعد أن أصبحت مرتهنة اقتصادياً ومالياً، للمساعدات الغربية والضرائب التي تجبيها السلطات الإسرائيلية لمصلحتها، وباتت مجبرة على مراعاة الموقف الأميركي، والإسرائيلي في أي قرارات ستتخذها، حتى لا تقطع المساعدات المالية عنها.
وهذا ما حصل في اكثر من محطة، حاولت فيها السلطة السير بعكس الرغبات الاميركية - الإسرائيلية، مثل الذهاب الى الأمم المتحدة للحصول على الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية، وإن كان بالشكل.
رابعاً: اذا كان المفاوض الفلسطيني لم يحصل الا على غزة وأريحا في ظل امتلاكه كل الأوراق المذكورة آنفا، وقبل بأن تكون قضايا الوضع النهائي كلها غير محسومة، وموضع نزاع وتفاوض في المرحلة اللاحقة، فكيف سيكون قادراً على دفع المفاوض الإسرائيلي الى التخلي عن أهدافه، بتهويد كامل القدس، وتكريسها عاصمة موحدة للدولة اليهودية، وتثبيت وجود المستعمرات في الضفة وغور الأردن، وشطب حق عودة اللاجئين، وبالتالي الحيلولة دون اقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 67، واستطراداً فرض الحل الصهيوني التصفوي للقضية الفلسطينية على أساس الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، واعطاء الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة في اطار السيادة الإسرائيلية.
انطلاقاً من ذلك أصبحت السلطة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير بين حدين:
الأول: الشروط الإسرائيلية التي يعني القبول بها، المصادقة على تطويب فلسطين كاملة للصهاينة وشطب حق الشعب الفلسطيني في أرضه.
الثاني: رفض هذه الشروط، والبقاء أسيرة قيود اتفاق أوسلو الذي يوفر الغطاء للاحتلال لفرض وتحويل شروطه الى أمر واقع، وهو ما يحصل عملياً على الأرض هذه الأيام، من خلال اجتياح القدس المحتلة والمقدسات والعمل على تهويدها، ومن خلال الوتيرة المرتفعة في بناء المستعمرات الصهيونية في الضفة في ظل ظروف مواتية للاحتلال، الأمر الذي يجعل حكومة نتانياهو غير مجبرة على تقديم أي تراجع عن مواقفها المتشددة حتى ولو بالشكل، مثل تجميد مؤقت للاستيطان، وترى أن الفرصة سانحة لتحقيق كل ما تصبو اليه، وهو ما عبر عنه وزراء في حكومة نتانياهو عندما قالوا ان «فكرة الدولة الفلسطينية أصبحت من الماضي».
يبقى على قيادة منظمة التحرير، وسلطتها المرتهنة، أن تقتنع، بعد عشرين عاما من ملهاة ومصيدة المفاوضات، أن اتفاق أوسلو كان اتفاقاً مدمراً للقضية، وأن الاستمرار بالتمسك بسلطة تحت حراب الاحتلال لا يخدم القضية الفلسطينية، وانما يخدم الاحتلال ويوفر له الغطاء، لمواصلة مشروعه لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني.
وأنه آن الأوان للتخلص من هذا الاتفاق، وهذه السلطة، والعودة الى خط النضال الوطني التحرري الذي سلكته كل الشعوب التي تعرضت للاحتلال والاستعمار، فيما على قوى، وحركات المقاومة الفلسطينية ادراك أهمية العودة الى استئناف المقاومة ضد الاحتلال واستنهاض الشعب الفلسطيني لمنع الاحتلال من الاستقرار وتحقيق أهدافه.