إذا كان اللبنانيون قد تمرَّغَتْ ذقونهم بالسمن والعسل نتيجة صراعاتهم السياسية والطائفية، ونتيجة الإرتماء في أحضان الخارج وطعْن البَطْن الذي حمَلَهم، فلْيُكرِّروها مرة بعد، وكأنما كُتِبَ على البراهنة الهنود أن يستأذنوا الملك ليشقّوا أحشاءهم بالخناجر، وكُتِبَ على «بولندا» أَلاَّ تَتَّعظ من خطر تقسيمها ثلاث مرات قبل أن يتم محوها عن خريطة أوروبا.
قبل أن يصبح القتل موضة العصر وزينة الحياة الدنيا، بكل ما ابتدع شيطان العقل من فنون البقْر والبطش والنهْش والسَحْل والذبح بعد الإغتصاب.
قبل ذلك، كنا نحن اللبنانيين، نعم نحن اللبنانيين على ما أذكر، إذا ما تصفّحنا جريدة ووقع نظرنا على قطار تدهور في هونغ كونغ، ومات فيه رجُلٌ بالسكتة القلبية، تَدْمَع عيوننا للمشهد الحزين، ونجهش بالبكاء إذا ما شاهدنا فيلماً مصرياً يموت فيه البطل، وكنّا إذا صدَم أحدُنا بالسيارة رأساً من المعزى نقلناه الى المستشفى وطلبنا وضْعه على نفقتنا في غرفة العناية الفائقة.
أما اليوم، وبعدما تلقَّتْ النفوس شحنات من الحِقَن الغرائزية المتوحشة، فقد أصبحنا نتفرّج على القطار وهو يقطِّع الأجساد إربَاً ولا يرفّ لنا جفنٌ ولا يحنّ لنا قلب، ونكاد لا تميّز كثيراً بين جمهرة من الآدميين وقطيع من المعزى.
ماذا يعني حشْدُ النفوس، وتجييش النفوس، وغسل الأدمغة وتعليب الأدمغة بالمواد السامّة حول الدين والمذهب والإنتماء والفوارق والتناقضات، واستحضار الصراعات التاريخية على شكل أشباح شريرة؟
وماذا يعني اللجوء الى العبارات المثيرة الوقْع، والإجتهادات التكفيرية النزعة للتشكيك بالدولة والسلطة والجيش والوفاق واستثارة التوتر الديني والتفسّخ المذهبي والإنقسام الوطني والإنكفاء الذاتي: كلٌّ الى قبيلته وطائفته ومذهبه ومذهبيته؟
الذين قاتلوا الجيش في نهر البارد، وهدروا دم الجيش بدم بارد في صيدا، إنما هم يسفكون دماءهم بمفعول رجعي حين يأتي اليوم الذي لا يبقى لهم فيه غير الجيش ضامناً لحياتهم وحاجباً لدمائهم، يومَ تتفلَّت الفصائل من عقالها، وتنفصل المذاهب عن رُعاتها، ويتمرّد قادة المحاور على قادة المنابر، ولا يعود الله موجوداً وكلّ شيء مباح.
المجتمعات الحضارية تعلَّمت من دروس التاريخ بما خاضته من صراعات دموية وحروب، بعدما سقط في القرن العشرين الذي عرف بقرن المذابح المليونية، مئة وسبعة وستون مليون قتيل حسبما ورد في كتاب "صراع الحضارات" حيث تكفّل هتلر وحده بقتل سبعة عشر مليون بشري، ولينين أباد ثمانية ملايين، وعلى يد ستالين لقي عشرون مليون إنسان مصرعهم.
بعد هذه الفواجع عضّت المجتمعات الغربية على الأصابع فارتدَّت، "ونوبل" الذي اخترع الديناميت مادة للقتل سنة 1866 عاقب عقله ندماً، وللتكفير عن هذا الإثم أنشأ جائزة نوبل للسلام.
وحدَها المجتمعات العربية لم تتلقَّف هذه اليقظة، بل راحت تشهد ارتداداً دموياً الى الخلف، لأن العقل عندما يتقلّص بالغريزة يصبح الإنسان غير صالح للحضارة، وعندما تسقط الهوية القومية بالهوية الدينية المسعورة يسقط الحق الطائفي في مجازر الحقد الطائفي.
العرب والكروات والمسلمون ظلَّلَتْهُمْ هوية قومية مشتركة في مجتمع مدني منصهر ومتصاهر بوحدة الزواج والتقاليد.
وعندما حلَّتْ الهوية الدينية محل الهوية الوطنية انهارت هذه الشعوب في مستنقع الدم الطائفي بكل ما أفرز من قتل جماعي ووحشية واغتصاب.
أي فلسفة دينية يعتمدها العقل الإيماني ليصبح الدين بها آلة جرمية للقتل؟ ألَّلهُمَّ إلا إذا كان الدين أفيون الشعوب حسب النظرية الشيوعية.
وكيف يكون المؤمن مؤمناً بالقتل وهو محرّم بالوصايا التي أُنْزِلتْ على موسى، ومحرّم في كتاب عيسى وفي صلواته اليومية، ومحرّم في القرآن "إذْ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً"
والدعوة الى السلام هي دعوة سماوية تفوَّهَ بها فم الله منذ أن مَسَحَتْ كفَّه الأرض فكان: "على الأرض السلام"، "والسلام على مَنْ إتَّبَعَ الهدى".
وبعض الفقهاء ينسبون كلمة الإسلام الى اشتقاقها من السلام.
فاتّقوا الله إذاً... "وأدخلوا في السلم كافة". وبعد "عبرا": "يا أيها الذين آمنوا لا تتَّبعوا خطوات الشيطان" كما فعلتم بعد "نهر البارد".
* جوزيف الهاشم هو وزير سابق