ها هي مصر محور الحدث السياسي العربي والدولي مجدّداً، تقدّم درساً متجدّداً لجميع الشعوب في الانتفاض على الظلم ورفض استلاب منجزات ثورة "25 يناير" وتحويل مسارها من ثورة شعبية ديموقراطية عارمة خرجَت من وراء قضبان الديكتاتورية التي فرضها النظام السابق، الى حكم ديني متشدّد ومتطرّف أظهرت أولى مؤشراته أنه، في الكثير من المفاصل، لا يختلف كثيراً عن سابقه، خصوصاً أنه حاول أخذ المجتمع المصري نحو تركيب أسُس حياة جديدة قوامها الاعتبارات الدينية في الدرجة الأولى، وهو ما يتنافى مع الحضور الشعبي للتيارات الليبرالية.
لقد ساهمت بعثرة التيارات الليبرالية المصرية وغياب رؤيتها السياسية الموحّدة، إضافة الى خوف الشعب المصري من انتصار بعض الرموز السياسية التي وُصفت بأنها "فلول" النظام السابق، ومثلها آنذاك اللواء أحمد شفيق الذي رأس آخر حكومة في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، فضلاً عن القدرات التنظيمية العالية التي تتمتّع بها جماعة الأخوان المسلمين وحال التعاطف الشعبي مع قمعها المتواصل على مدى عقود؛ ساهمت كل هذه العناصر في فوز الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر العام الفائت.
وإذا كان العديد من المراقبين قد توقّع أن تُبدّد التيارات الإسلامية الصاعدة "الانتصارات" التي حقّقتها بُعيد اندلاع الثورات العربية في مصر وسواها، إلّا أنّ أحداً لم يتوقّع الانحدار السريع في أداء السلطات الجديدة المنتخبة، على اعتبار أنّ معاناة النخب الجديدة مع أنظمة القمع والتسلّط كان يفترض بها أن تشكّل حافزاً لتلافي السقوط في الأخطاء ذاتها.
أغلب الظنّ أنّ الأمور في مصر ستتّجه نحو المزيد من التأزم لا سيّما في ظلّ غياب مؤشرات جدّية توحي بأنّ جماعة الأخوان المسلمين ستتنازل عن الحكم ببساطة، بعدما انتظرت عقوداً لتحقيق هدفها الأساسي المتمثل بالوصول الى السلطة، وهي قد توسّلت مراراً تغيير نمط الحكم من خلال سياسة الاغتيالات السياسية التي طاولت مرّة، من دون أن تنجح، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحققت نجاحاً عند اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981.
مهما يكن من أمر، فإنّ النتائج السياسية التي ستتمخّض عن الثورة الجديدة (التي هي بمثابة ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة) ستترك الكثير من التداعيات المتلاحقة، ليس فقط على صعيد الداخل المصري، إنما أيضاً على المستوى العربي برمّته، وعلى الخلاصات الأساسية المرتبطة بالتجربة القصيرة لحكم التيارات الإسلامية بعد الثورات، في وقت تُعاني دول الثورات الأخرى، التي شهدت صعوداً لتيّارات مماثلة، من مشاكل مشابهة.
الأكيد أنّ الدول العربية، بشعوبها المختلفة، ستصل الى استنتاجات مفادها رفض وضعها بين خياري الديكتاتورية والثيوقراطية. من حقّ الشعوب العربية أن تحظى بأنظمة ديموقراطية يكون عنوانها الأساسي الحرية والتنوّع والعيش الكريم بعيداً عن التسلّط والهيمنة والذلّ.