مصر تعود من جديد الى صدارة الأحداث في المنطقة، والعالم لما لها من أهمية وتأثير على خارطة توازنات القوى بحكم كونها اكبر دولة عربية، وتحتل موقعاً جغرافياً حيوياً، وبالتالي فان اتجاهها يمنياً أو يساراً يتسبب بتغييرات في بيئة المشهد السياسي في الوطن العربي وإفريقيا.
فقد اعتقدت الولايات المتحدة الاميركية، ومعها الدول الغربية أن الأمر قد استقر في مصر لصالح سياساتها، بعد وصول حزب الإخوان المسلمين الى سدة الحكم، الذي تعهد للمسؤولين الأميركيين بمواصلة سياسات النظام السابق بما يحفظ العلاقات مع أميركا، والكيان الصهيوني، والتي تنظمها اتفاقيات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من دورها العربي التحرري المستقل، ووضعتها في فلك التبعية للغرب واسرائيل.
غير أنه بعد نحو عام على حكم الرئيس محمد مرسي وتسلم الإخوان مقاليد السلطة، انهار هذا الاعتقاد والحلم دفعه واحدة، وحل مكانه مجدداً القلق من حصول تحول ثوري دراماتيكي في مصر، يخرجها من محور التحالف مع أميركا والكيان الصهيوني، ويضعها في موقعها الطبيعي، دولة عربية موحدة متحررة من التبعية للغرب، ومن قيود اتفاقيات كامب ديفيد، وسنداً للقضايا العربية العادلة وفي مقدمها قضية فلسطين ومقاومتها.
ومصدر القلق الغربي الصهيوني هذه المرة يكمن في نزول اكثر من 17 مليون مواطن مصري الى ساحات المدن المصرية، للمطالبة باسقاط الرئيس مرسي وحكم الإخوان بناء على دعوة وجهتها «جبهة 30 يونيو» حملة تمرد، وتضم مختلف الحركات والأحزاب السياسية، وتشكل القيادة الموحدة للثورة ضد حكم الإخوان، وادارة المرحلة الانتقالية بعد اسقاط مرسي، وسبق ذلك نجاح حركة تمرد، التي حضرت ليوم 30 يونيو، في الحصول على توقيع نحو 22 مليون مواطن مصري على عريضة تطالب باسقاط مرسي، ووضع حد لتبعية مصر للولايات المتحدة الاميركية.
وهذا مؤشر على انتقال الثورة المستمرة من حالة العفوية التي استغلها الإخوان في البداية بالاتفاق مع أميركا، والمجلس العسكري للوصول الى الحكم، الى حالة التنظيم وبلورة رؤية وشعارات سياسية واضحة تحدد الوجهة التي تسير فيها.
وهو ما لم يحسب له الإخوان أي حساب فهم تصوروا أنهم تمكنوا من السلطة وأن ما سيجري لا يعدو زوبعة في فنجان سرعان ما تنتهي، الأمر الذي اكد أن قادة الإخوان كانوا في غيبوبة حقيقية، فهم لم يصدقوا أن غالبية الشعب المصري ستنزل الى الشارع بهذه الأعداد الكبيرة التي تجاوزت بكثير تلك التي نزلت في 25 يناير للمطالبة باسقاط الرئيس مبارك.
وكانوا يراهنون على أن تنزل الملايين لتؤيد حكم الإخوان، وتثبيت شرعية الرئيس مرسي، أو في أقل تقدير أن يكون عدد المؤيدين يساوي عدد المعارضين بحيث يصبح من الصعب على المعارضة تحقيق هدفها ، وبالتالي اجبارها على الدخول في حوار مع مرسي، والتخلي عن المطالبة باسقاطه.
سقوط حكم الإخوان:
يبدو من الواضح أن حكم الإخوان في مصر قد سقط لأنه فقد أي قدرة على البقاء للأسباب التالية:
السبب الأول: فقدان الرئيس مرسي وحزبه الشرعية الشعبية حيث ظهر أن ميزان القوى الشعبي مختل بشكل كبير، وبما لا يقاس لصالح المعارضة، ففي مقابل ساحة رابعة العدوية التي حشد فيها الإخوان أنصارهم (نحو 300 ألف) كان هناك ساحات عديدة في القاهرة والمدن المصرية يحتشد فيها اكثر من 17 مليون مواطن، وهو رقم يتجاوز بكثير الرقم الذي حصل عليه مرسي في الانتخابات، مما يعني أن مرسي فقد الغطاء الشعبي، والشعب لم يعد يريد استمراره في السلطة حتى يكمل ولايته الرئاسية، وهو سحب منه هذه الوكالة معبراً عن ذلك باستفتاء مباشر في الشارع لا يمكن لأحد ان يشكك فيه، أو يزور ارادة الشعب.
السبب الثاني: انضمام ضباط ورجال الشرطة الى صفوف المتظاهرين الداعين لاسقاط الرئيس مرسي.
السبب الثالث: اقدام الجيش على رفع الغطاء عن مرسي، والانحياز الى جانب الارادة الشعبية بدعوة مرسي الى الاستجابة لها، والتنحي عن الحكم.
السبب الرابع: تصدع جبهة مرسي، وفشله في كسب تأييد حزب النور السلفي الى جانبه، حيث استقال العديد من الوزراء، ووضع رئيس الحكومة استقالته بالتصرف فيما استقال أيضا عدد من مستشاري الرئيس، وفي مقدمهم مستشاره العسكري والأمني سامي عنان.
في ضوء هذه الوقائع، والمعطيات يصعب على أي حاكم في العالم الاستمرار في السلطة.
لماذا وصلت الأمور الى هذه النتيجة، وسقط حكم الإخوان بهذه السرعة التي لم يكن الكثيرون يتوقعونها؟.
المتتبع لمسار التطورات في مصر اثر سقوط الرئيس مبارك، وانتخاب مرسي رئيساً يلحظ بوضوح أن شيئاً لم يتغير في السياسيات التي كانت قائمة في العهد السابق، لا بل أن الازمات التي تسببت بها هذه السياسات، وكانت وراء ثورة 25 يناير العفوية، ازدادت حدة، ونظام الإخوان أوغل في هذه السياسات وطبق النسخة الأسوأ منها، وهو ما تمثل في الآتي:
1 ـ مواصلة النهج الاقتصادي الاجتماعي النيوليبرالي القائم على الارتباط بسياسات صندوق النقد الدولي، مما أدى الى مزيد من التراجع الاقتصادي، وانهيار القدرة الشرائية، وازدياد البطالة، وتراجع الخدمات.
2 ـ بدلاً من تلبية مطالب الناس المزمنة جرى ادارة الظهر لهذه المطالب تحت عنوان التركة الثقيلة.
3 ـ العمل على أخونة مؤسسات الدولة، والغاء استقلالية القضاء.
4 ـ حصر مرسي جميع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية بشخصه بموجب اعلان دستوري أصدره، مما جعله أشبه بفرعون جديد.
5 ـ انتعاش الخطاب الديني الطائفي والمذهبي.
6 ـ مواصلة نهج التبعية للولايات المتحدة الاميركية، وتنفيذ أجندتها السياسية والأمنية في المنطقة، وتجسد ذلك في زيادة التنسيق الأمني في سيناء لحماية أمن الكيان الصهيوني، اثر العدوان الأخير على قطاع غزة، وتشديد الحصار على القطاع، واغلاق الانفاق لمنع دخول السلاح لفصائل المقاومة، والحفاظ على العلاقات مع الكيان الصهيوني بموجب اتفاقيات كامب ديفيد.
7 ـ لجوء الإخوان الى ممارسة القمع ضد المعارضين لسياساتهم في رفض واضح الاستجابة لمطالب قادة المعارضة بالتراجع عن سياسات الاسثئتار بالسلطة.
وكان الشعب المصري أمام خيار من اثنين:
اما انتظار أن يكمل مرسي فترة حكمه، حتى تحصل انتخابات جديدة لتغييره، أو يتحرك من الآن لازاحته عن سدة الرئاسة.
وقد اختار الشعب الخيار الثاني، لأنه لم يعد قادراً على تحمل بقاء مرسي ثلاث سنوات اضافية في ظل أزمة متفاقمة على كل الصعد، وهو يريد تغييراً سريعاً في سياسات الحكم تحقق مطالبه في تحرير مصر من التبعية للخارج والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وصون الوحدة الوطنية، واعادة مصر الى موقعها العربي المتقدم.
انطلاقاً مما تقدم يمكن القول أن حزب الإخوان قد سقط سريعا وبزمن قياسي لأنه قدم نموذجاً سيئاً في الحكم أسوأ من حكم مبارك وايغاله في سياساته المدمرة لاقتصاد مصر، والمفقرة لشعبها، والمفرطة باستقلالها الوطني وأمنها القومي والمائي.