التفجير الإرهابي في الضاحية الجنوبية، سواء كان رسالة من بئر العبد الى السيد، أو رسالة أمنية من "العميان الى المبصرين"، أو من المبصرين الى العميان، فهو جريمة خسيسة نفَّذَها عبدٌ حقير بدافعٍ من سيّد حقير.
إنه التفجير الكلاسيكي الرائج الذي يتم بواسطة هذا الشرير الذي أسمُهُ اللاَّسلكي، وكلّ التفجيرات عندنا الأمنية والسياسية والطائفية والإقتصادية هي تفجيرات لاسلكية.
واللاسلكي هو القمقم السحري الذي ابتكرتْه غريزة العقل البشري لتأمين الإتصال الفتّاك بين السِلْكِ والقذيفة، وبين المجرم والجريمة، وبين الآلة الشريرة والبشر الآليِّين، حتى كدنا مع هذا الإبتكار العجيب نترحّم على ذلك البدوي الذي وقف مذهولاً أمام اختراع جهاز الراديو، فحاول تحطيمه لإخراج الشيطان الذي فيه.
ومن أجل أن يُثْبت لبنان أنه انتقل من عهد البداوة الى عهد العصرنة، راحت الأجهزة البشرية فيه تستعمل الأجهزة اللاسلكية بجشع، لتأمين الإرتباط الوثيـق بينها وبين العروبة المتطورة لاسلكياً، وبين دول الشريط الأزرق والشريط الأحمر، والمحاور المحلية والإقليمية والدولية، حتى فجَّرت أسلاك اللاسلكي الحرب في لبنان، وأشْعلت معها وبعدها غابةً من التفجيرات والإغتيالات، ولم يبقَ إلاّ سِلْكٌ هزيل واحدٌ يربط لبنان بالله.
قبل الإتصالات اللاّسلكية، كان الصوت الحيّ هو الذي يؤمَّن الترابط والحوار بين اللبنانيين، وكانت المناداة هي الصِلَة بين قرية وقرية، فلا خطوط هاتف، ولا خطوط التماس، ولا خطوطٌ حمْر، وكان صوت المئْذَنة يؤمَّن التواصل مع صوت الجرَس في إطار حوار مباشر بين عائلات وطنٍ ممَّيز وُصِفَ بالوطن الرسالة.
أما اليوم، فقد تناثرت الأصوات، وتباعدت المناطق، وتبعثرت العائلات جُزُراً معزولة وقبائل منعزلة، وقرى مهجّرة ومهجورة، وأصبحت المسافة بين المئذنة والمئذنة، وبين الحرس والجرس تحتاج الى لاسلكي لإيصال صوت الله الى الناس.
كل الأصوات التي تنطلق اليوم من الأرض الى الأرض، ومن الأرض الى السماء، أصبحت أصواتاً آلية ملغومة، والكل أصبح يحمل جهازاً آليّاً ينطق بلغة المنْشَأ، وضاعت لغة العقل بين الكلمات الميكانيكية والقاموس العسكري التكنولوجي، وضاعت لُغتُنا الأمّ بين رموز الشيفرة.
هذا هو لبنان، لؤلؤة الشرق المشعّة فوق موجات الفكر، أصبح أسير موجات التدمير اللاسلكي.
وهذا الأنموذج العالمي، وريث حضارات منْبَلِجَة من عمق التاريخ، أصبح أسير التخلّف والأميّة والجهل.
ولبنان الذي لألأ الأفق العربي بنور الريادة الأدبية قائداً حضارياً للأمة، أصبح بلد البترول المشتعل بواسطة آلة اللاسلكي، فيما البترول هو مادة للحريق والفكر مادة للحياة.
هذه الصورة المشوّهة للوطن الحضاري التاريخي، لا يزال القيّمون عليه يُمْعنون في تشويهها، ولا خلاص إلا على يد الشباب المرهون لمستقبل مجنون، لعل الأجيال الصاعدة تنتفض ثائرة متمردة في الساحات والميادين لإنقاذ لبنان من مطاردة الشياطين، كما كان الشاعر وليم بلَيْك blake يعتقد بأنه مسكون بشياطين تطارده في النهار وتوقظه في الليل، حتى ولو كانت شياطين الشاعر الإنكليزي لم تكن تحمل جهاز اللاسلكي.
* وزير سابق