الإشتباكات العنيفة التي دارت بين وحدات من "الجيش السوري الحرّ" ومقاتلين "إسلاميّين متشدّدين" في إدلب شمال غرب سوريا في خلال الأّيام القليلة الماضية، ليست الأولى من نوعها، حيث سبق أن دارت أكثر من معركة بين الجهتين في أكثر من موقع في سوريا. ومنذ نيسان الماضي، زادت وتيرة المواجهات المسلّحة بين الجانبين، في الوقت الذي يخوض كلاهما معارك ضارية في أكثر من جبهة مفتوحة ضد الجيش السوري النظامي الذي يحقّق مكاسب ميدانيّة مهمّة على الأرض في المرحلة الأخيرة. ويمكن القول إنّ "شهر العسل" بين كل من وحدات "الجيش السوري الحر" (تتكوّن بأغلبيتها من فرق عسكريّة منشقّة عن الجيش السوري النظامي، ومن متطوّعين سوريّين) من جهة، و"جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" (تتكوّنان بأغلبيّتهما من مقاتلين إسلاميّين من خارج سوريا) من جهة أخرى، قد إنتهى إلى غير رجعة. والأسباب أعمق بكثير ممّا يتمّ ترويجه، مثل الخلافات على "الغنائم" وعلى "النساء"، إلخ. وأبرز الأسباب الحقيقيّة للخلاف المتفاقم بين الجانبَين هي:
أوّلاً: قيام "المقاتلين الإسلاميّين" بفرض أفكارهم ومعتقداتهم الدينيّة بالقوّة على الجميع من دون إستثناء في المناطق التي يسيطرون عليها. والمسألة تتعدّى التعرّض للمقدّسات المسيحيّة، وتطال الإسلاميّين أنفسهم. وهؤلاء لا يتردّدون في إعتقال أيّ شخص يعارضهم وحتى في قتل أيّ شخص يواجههم، حتى لو كان ناشطاً معارضاً أو مقاتلاً في "الجيش السوري الحرّ". وإغتيال كمال حمامي، الذي يُعتبر من أبرز القادة العسكريّين الميدانيّين في الجيش السوري الحرّ، منذ بضعة أيّام، هو من الأدلّة الحديثة على ذلك، وقد لعبت "تصفيته" دور "القشّة التي قسمت ظهر البعير"!
ثانياً: قيام "المقاتلين الإسلاميّين" بإقامة نوع من "الإمارات الإسلاميّة" في المناطق التي يسيطرون عليها، مع تعيين "أمراء" محلّيين لتسيير شؤون الناس. وعلى الرغم من حسن تنظيمهم للأمور الحياتيّة، من توزيع للمياه وللغذاء ومن توفير للخدمات وللمساعدات، فإنّ تدخّلهم في أصغر التفاصيل الإجتماعيّة للسكان، وقيامهم بإنشاء محاكم ميدانية، أثار حفيظة الكثير من المواطنين السوريّين. وقد علت الأصوات من داخل صفوف المعارضة، لجهة رفض إستبدال حكم الرئيس السوري الديكتاتوريّ بحكم إسلاميّ متشدّد، لا يقبل بالبحث في مفهوم "الديمقراطية" بالمطلق، ويعتبر المبادئ العلمانيّة "كفراً"!
ثالثاً: على الرغم من الترحيب المتبادل بين أفواج المعارضة السوريّة بأيّ نصر ميداني يحقّقه أيّ فريق منها على قوات النظام، فإنّ لا تنسيق ميداني بين قوى الجانبين على جبهات القتال. وعندما يضعف النظام في أيّ منطقة، يسارع مقاتلو "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" إلى محاولة السيطرة عليها بمعركة نهائية، حتى لو كانت "الجبهة" المذكورة مُناطة بقوات "الجيش الحرّ". والصراع على السيطرة الميدانية بين أطياف المعارضة السوريّة المختلفة، يترافق أيضاً مع سعي دائم من قبل "الإسلاميّين المتشدّدين" لإقناع المقاتلين السوريّين في "الجيش الحرّ"، بالإنضمام إليهم، وذلك عبر دفع رواتب أعلى، وكذلك عبر عمليّات "غسل دماغ" دينيّة التوجّه، الأمر الذي يُثير حفيظة قيادة "الجيش الحر" التي تسعى جاهدة لأن يكون لها حجم عددي كاف لفرض الهيبة والنفوذ.
رابعاً: إشتراط العديد من الدول الغربيّة قيام "الجيش السوري الحرّ" ببسط سيطرته بشكل كامل على المناطق التي ينتشر فيها، للحصول على الأسلحة النوعيّة الموعودة. وقد باتت قيادة "الجيش الحر" مقتنعة تماماً، بأن لا مجال للحصول على أيّ دعم عسكري فعلي في المناطق التي يتقاسم فيها "الجيش الحر" السيطرة مع "المقاتلين الإسلاميّين". لذلك، صار التواجد المشترك على أرض جبهة واحدة، والذي كان في الأساس محدوداً، نادراً جداً اليوم.
خامساً: تباين مصالح الدول الداعمة للمعارضة السورية، وسعي كل منها لمدّ أفواج محدّدة من هذه المعارضة بالتمويل المالي وبالدعم العسكري اللوجستي. وهذا ما زاد من فرز "القوى الميدانية" بين تلك المؤيّدة لقطر، وتلك الموالية للمملكة العربية السعودية، وتلك المتعاطفة مع النظام في تركيا، وغيرها من التوجّهات.
وممّا تقدّم، الأكيد أنّ المعارضة السوريّة المسلّحة، بتشكيلاتها المنوّعة، ليست في أفضل أحوالها اليوم. فمناطق سيطرتها تخضع لهجمات عنيفة من الجيش السوري النظامي الذي يحقّق تقدّما -ولو بطيئاً- في بعض "الجبهات". كما أنّ هذه المناطق التي تعاني من صعوبات معيشيّة كبيرة، ومن قصف تدميري، تشهد صراع سلطة متفاقماً بين "الجيش السوري الحرّ" والتنظيمات الإسلاميّة المختلفة و"أمراء" الأحياء. والمشكلة تتجاوز الصراع السياسي، وحتى النفوذ الميداني، وتبلغ درجة التباين العقائدي الجوهري، والخلاف العميق في الأهداف النهائية لكل من الجانبين، وللجهات التي تقف وراء كل منهما. والأكيد أنّ كل ما سبق لا يخدم "المعارضة" السوريّة، مع وجود إستثناء يتمثّل في أن تصدق "الوعود الغربيّة" بمدّ "الجيش السوري الحرّ" جدّياً بالسلاح، بمجرّد إخراجه مقاتلي "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" من مناطق نفوذه. فهل ينجح في ذلك، علماً أنّ "المقاتلين الإسلاميّين" أظهروا ثباتاً وشراسة أكبر في معاركهم ضد النظام مقارنة بالوحدات المنشقّة عن الجيش السوري، أم تسقط المعارضة في فخ الصراع الداخلي الذي لا يمكن إلا أن يزيدها ضعفاً؟!