لا يمكن لعونيّ أن يكون «مناضلاً» فعلياً إن لم يكن يحمله نشاطه العونيّ من منطقته إلى شوارع المتن الشمالي. من كليات القضاء انطلقت غالبية التحركات الميدانية إبان الوجود السوري. إلا أن الصورة الجميلة لاتحاد العونيين يومها لم تلبث أن اضمحلت مع تقاطر المشكلات إلى القضاء
يعلن أحد المسؤولين في لجنة الطلاب في كلية الآداب ــ الفرع الثاني، ومركزها الفنار، موافقة الجنرال المنفيّ آنذاك، ميشال عون، على خروج الشباب العونيين في تظاهرة أمام أحد حواجز الجيش السوري بالقرب من الكلية. سريعاً يتسرب الخبر همساً من شاب إلى صبية وكلية إلى كلية، فتغطي المناشير أرض المتن الشمالي وتتطاير إلى بقية الأقضية. يتجمهر المئات من الشمال وكسروان وجبيل وبعبدا وزحلة وعاليه وغيرها من الأقضية في اليوم المحدد، ليسلك الاعتصام طريقه إلى الهدف بنجاح. وهكذا تتكرر الاعتصامات والتظاهرات الواحدة تلو الأخرى بتعاون استثنائي وتوافق على مجمل العناوين، فتبث الأعداد الحماسة في قلوب بعضها، رغم القمع ومحاولات التفرقة.
قبل عام 2005، حضن المتن الشمالي «أيام نضال» العونيين وتواطأت فروع كلياته الثانية (الحقوق، الآداب، العلوم، الإعلام) مع طلابها على تنظيم النشاطات السياسية المحظورة. بات القضاء بموقعه الاستراتيجي أساس الحركات الميدانية الشبابية ونقطة انطلاقهم. في عام 2003 خاض التيار الوطني الحر أولى معاركه السياسية والانتخابية الجدية في المنطقة إلى جانب غبريال المر في مواجهة ميرنا المر. رأس الماكينة الانتخابية يومها الناشط العوني طانيوس حبيقة بنجاح، وصولاً إلى انتخابات 2005، ليعاون بعدها منصور فاضل (نائب رئيس بلدية الجديدة ـــ البوشرية ـــ السد حالياً) في الانتخابات التي تلت، أي 2007 الفرعية و2009. نجاح السنوات الماضية قابله وفقاً للعونيين فشل مطلق في الانتخابات البلدية الأخيرة. ضمت الماكينة التي تشكلت لخوض الاستحقاق إلى جانب حبيقة وفاضل، كلاً من النواب إدغار معلوف ونبيل نقولا وإبراهيم كنعان ومنسق هيئة قضاء المتن آنذاك كمال جبر والمحامي إبراهيم السمراني. لم يجتمع أعضاء تلك الماكينة، ولو لمرة واحدة للتنسيق، فتحولت الانتخابات البلدية إلى انتخابات فردية يعمل كلّ واحد منهم فيها في منطقته وفقاً لرؤيته الخاصة. أخذت الخلافات تكبر بين العونيين، نواباً ومسؤولين، وبات تيار قضاء المتن منقسماً على نفسه تتجاذبه حبال المتصارعين في ما بينهم. فقد المتن الشمالي تلقائياً الميزة وراء الأخرى، فلم يعد ذاك القضاء الحيوي المفعم بالنشاطات السياسية والدافع الأساسي لعمل بقية الأقضية اقتداءً به. في عام 2010 ونتيجة قرار الرابية إعادة هيكلة هيئات الأقضية كافة، استبدل جبر بمنسق آخر يدعى هشام كنج (مسؤول الإعلام في الهيئة السابقة) والأعضاء بأعضاء جدد: عبدو لطيف (نائب منسق)، عبدو عازار (أمين سر)، فادي الحاج (مسؤول الخدمات)، وسام شهوان (مسؤول النشاطات)، عادل عون (المسؤول اللوجستي)، منصور الشنتيري وعبدو الخراط (مسؤولا لجنة الشباب)، والمهندس جان أبو كرم (مسؤول بلديات).
حملت تلك التغييرات إلى عونيي المتن الشمالي آمالاً بإعادة لملمة ما فرقته حسابات البلدية الشخصية. وبالفعل أوحت هيئة القضاء برغبتها في إعادة ترميم المناطق وإحياء عمل منسقي البلدات المتواطئين أنفسهم في خلافات القضاء. إلا أنه وفقاً لبعض العونيين، وقعت الهيئة خلال عملها الإصلاحي المفترض في فخّ التجاذبات السابقة، واختارت وراثتها عن سابقتها بدل الشروع في إيجاد الحلول الجدية لها. ففي بلدة الزلقا ـــ عمارة شلهوب مثلاً، عُيِّن منسق جديد يدعى روني أبو غزال، الذي لم يفلح منذ لحظة تعيينه في تشكيل هيئة جديدة، فاقتصر أعضاؤها على عضو واحد يدعى إيلي قازان، الأمر الذي استفز الهيئة السابقة بأعضائها السبعة والثمانين، فقاموا على أثرها بتوجيه كتاب إلى الأمين العام للتيار الوطني الحر إيلي خوري يرفضون بموجبه اسم المنسق الجديد. وبناءً عليه، لا تزال هيئة الزلقا معطلة منذ عامين. ومن الزلقا إلى ضبيه، هيئة جديدة ومنسق جديد. الاعتراض هنا على تعيين نائب منسق القضاء عبدو لطيف منسقاً للبلدة بنفسه، ما أدى إلى تأليف هيئة من غير المتنيين بغالبيتها بعد رفض عونيي ضبيه، بحسب قولهم، الانصياع لرغبات لطيف الذي خاض الانتخابات البلدية، متحالفاً مع حزب الكتائب في وجه الحزب القومي. وفي بلدة الجديدة، أدخل المنسق الجديد سمير أبو سمرا انشقاقات إضافية إلى الهيئة والبلدية معاً، نتيجة خلافاته مع نائب رئيس البلدية ومسؤول الماكينة الانتخابية السابق منصور فاضل. فانقسمت الهيئة وأعضاء البلدية العونيون إلى فريقين، وشلّ عمل الهيئة والبلدية معاً.
لا تقتصر «الأعطال» الأخيرة على الهيئات الثلاث السابقة، بل باتت كالمرض المزمن تتناقلها أطراف البلدات الواحدة إلى الأخرى، يقول أحد مسؤولي التيار في المتن الشمالي: هيئات المتين والمنصورية وعينطورة عاطلة من العمل. هيئة بسكنتا التي تضم 10 أعضاء، فيها ثلاثة عونيين والباقون من خارج التيار. في بصاليم حاولت هيئة القضاء إدخال «دم جديد» إلى هيئة البلدة وانطلقت في رحلة البحث عن منسق جديد لخلافة طوني أيوب. وبعد أن تعذر إيجاد من يتسلم تلك المسؤولية، اجتمعت هيئة البلدة المراد تغييرها وأعادت انتخاب منسقها السابق مبلغة قرارها إلى الأمين العام للتيار، إيلي خوري. وهكذا أعيد أيوب إلى منصبه السابق. أما في بلدة نابيه، فقد سبّب تعيين المنسق دوري عطالله امتعاضاً كبيراً وسط البلدة العونية التي توجهت بغالبيتها إلى الرابية نصرة لمنسقها السابق المختار طوني خوري. عندها، طلب النائب ميشال عون من الأمين العام (إيلي خوري) تحديد موعد لانتخاب منسق جديد. وصل قرار الرابية إلى هيئة القضاء التي اقترحت إجراء مصالحة مع خوري لإعادته إلى منصبه عوضاً عن الدخول في أتون الانتخابات. وافق المختار، مشترطاً عدم وجود نائب منسق الهيئة في كل الاجتماعات التي يحضرها، فعاد إلى منصبه وسط امتعاض من عطالله. إلا أن المصالحة الشكلية لم ترقَ إلى مصالحة فعلية، وخسرت الهيئة بموجبه تأييد الاثنين (خوري وعطالله). في بتغرين، لا هيئة. وفي بكفيا طارت الهيئة المؤلفة من 23 عونياً بفعل الخلافات مع هيئة القضاء، الأمر الذي يدعو أحد العونيين الفاعلين في المتن لدى سؤاله عن عمل الهيئات إلى الإجابة: عن أي هيئات تتحدثون؟ يشير جانباً إلى أن هيئة القضاء، وقبيل الانتخابات النيابية التي كادت أن تجري أخيراً، حاولت دعوة المندوبين إلى اجتماع موسع للتحضير للاستحقاق الآتي، فاقتصر الحضور على 60 مندوباً من أصل 2000. يضيف: لا لوائح شطب فعلية بأيدي هؤلاء سوى تلك المنتقلة إليهم من الانتخابات الأخيرة. ليهمس أخيراً: «لو جرت الانتخابات فعلاً، لكان أعاد النواب سيناريو بلديات 2010 أي العمل كأفراد لا يجمعهم حزب واحد، لا كفريق عمل متجانس. فالهيئة هي الأخرى دخلت في نزاعات نواب القضاء وباتت بشكل أو بآخر طرفاً فعلياً في تلك الخلافات».
لا ينكر منسق قضاء المتن الشمالي في التيار الوطني الحر هشام الحاج صحة بعض المشكلات في بعض هيئات البلدات، إلا أنه في المقابل يبلغ «الأخبار» أنه وفريقه يعملون على حلها. وخلافاً لما يقال، «ليست تلك الخلافات مستجدة بل متوارثة من الأيام التي سبقت تسلمهم لمهماتهم (أي قبل عامين) وبعضها نتيجة الانتخابات البلدية الأخيرة». يشير إلى أن هيئته تمكنت من ترميم نحو 80% منها والعمل جارٍ على الـ20% الباقية. أما في ما خص لوائح الشطب، فيؤكد الحاج أن بحوزة فريقه «لوائح حديثة وداتا متطورة وقد حضر اجتماع المندوبين 1500 مندوب لا 60 فقط». وفي معرض حديثه عن تمايز عمل هيئة القضاء ونجاحها بتفوق عن سابقتها، يشير إلى مهرجان متني «نعمل على تنظيمه في أيلول المقبل ونتوقع أن يحضره نحو 10 آلاف مدعو، وأتحدّى أي قضاء أن يستطيع حشد ذلك العدد. وذلك إثبات آخر على نجاحنا».
وسط التجاذبات المتنية والخلافات النيابية الظاهرة التي انعكست سلباً على عمل الهيئات، ثمة من يسأل عن صمت عون المطلق تجاه ما يجري في ذلك القضاء الذي يُعَدّ من أكبر خزانات التيار الوطني الحر تماماً كبعبدا وكسروان. وثمة من يبرر لعون انكفاءه عن التدخل آنياً في تفاصيل المتن الشمالي؛ فالرابية بنظره لا تستبدل أحصنتها في منتصف السباق، ولو تحركت ببطء، بل تنتظر بلوغ الأحصنة خط النهاية كي تبني على الشيء مقتضاه.