لا يستطيع أحد التكهن حتى اللحظة بمسار الأزمات في الساحات العربية، لا إلى أين تتجه. ولا متى تبصر النور الحلول. هل تمتد الأحداث إلى سنوات طويلة؟ أم تفرض المستجدات حلولاً مفاجئة ليست في الحسبان؟
القيّمون على مؤتمر جنيف 2 الموعود حول سوريا لا يعلمون سير المحطات الشرق أوسطية المقبلة بالتفصيل، لكن مطلعين يرصدون إشارات بالجملة حول مخططات غربية تأتي منسجمة حول المنطقة.
يقول هؤلاء المطلعون أن العواصم الغربية بدأت تدير الظهر تدريجياً للشرق الاوسط بعد تأمين وضع إسرائيل. ويستند هؤلاء إلى حقيقة ضرب الجيشين السوري والمصري بأدوات داخلية، ما يعني إزالة الخطر العربي عن تل أبيب الذي بقي هاجسه يخيم طيلة العقود الماضية.
ألم تغير إسرائيل إستراتيجيتها العسكرية الآن؟ ألم تلجأ إلى تقليص ميزانيات الدفاع وتخفيض عديد الجيش؟ لقد زال الخطر العسكري عن إسرائيل بعد إنشغال الجيش السوري بحرب طاحنة يخوضها مع جماعات مسلحة متطرفة "كجبهة النصرة"، ويذهب الجيش المصري إلى حرب مفتوحة إنطلاقاً من شمال سيناء مع نوعية المسلحين نفسها، بعد سلسلة الاعتداءات التي يتعرض لها في العريش والهجمات المتكررة، تماماً كما هي بداية الأحداث السورية. لقد جاءت محطات ضرب الجيوش العربية تدريجياً منذ تفكيك الجيش العراقي هادفة لطمأنة إسرائيل.
يتحدث المطلعون أنفسهم عن قضية إدراج الجناح العسكري لحزب الله الآن على لائحة الإرهاب الأوروبية على أنها في سياق الإستهداف التدريجي للعناصر التي تشكل خطراً على إسرائيل. لم يعد هناك من خطر على الإسرائيليين سوى من المقاومة التي وضع لها أعداؤها خطة كما يقول المطلعون لضربها بواسطة الخطاب المذهبي تارة أو عبر العناوين السياسية تارة أخرى، والآن أتى القرار الأوروبي لخدمة ذات الهدف.
إذا صحت القراءة في شأن مغادرة الغرب ساحات المنطقة مطمئناً على أمن إسرائيل من جهة، وعلى مصادر النفط المعروض للبيع الدائم بفعل حاجة الدول الخليجية للأموال، هذا يعني أن الساحات العربية ستستمر في أزماتها المفتوحة. لكن ماذا عن التقسيم المطروح؟ وهل ما يقوم به الأكراد في شمال سوريا جزء من المشروع ويعتبر البداية؟
يقول المطلعون أنفسهم إن التقسيم قائم عملياً على مساحة المنطقة: هل يستطيع مواطن من بعلبك العيش في طرابلس أو العكس؟ هل يقدر المواطن السوري من السويداء الإقامة في درعا القريبة منه أو العكس؟
سعي الأكراد قد لا يبدو مرتبطاً بالمشروع الحالي، لأن نضال الكرد ليس جديداً من أجل تحقيق حلم الدولة "كردستان الكبرى" . لقد سبقت المرحلة الحالية محاولات كردية بالجملة لاستيلاد حكم ذاتي أو على الأقل الحصول على إمتيازات. يستند حلم الأكراد إلى واقع قومي يمتد على مساحة دول أربع، مع تعداد سكاني يبلغ بين هذه الدول أكثر من 35 مليون كردي، يحافظون على لغتهم وعاداتهم، ويتفوق إنتماؤهم القومي على ما عداه من إنتماءات مذهبية ومناطقية.
يحلم الكرد بتطوير تجربة كردستان العراق في تركيا وسوريا وإيران. تبدو الأزمة الحقيقية التي تواجه الكرد هي في أنقره، نتيجة تخوف تركيا من تطورات الحدود الشمالية السورية معها، بعدما تبين أن قدرة سيطرة الكرد تصل إلى مساحة 500 كلم في مناطق إستراتيجية يتحكم فيها المسلحون الأكراد بعد طرد جبهة النصرة من مناطق حدودية عدة. يستغل الأكراد الأحداث لتحقيق الحلم القائم، على الأقل كما هو الحال في كردستان العراق.
بدت الخسائر واضحة لأنقره وإنقلب المشهد من حلم تركي يهدف لسيطرة واسعة تصل إلى حلب بالواسطة، لكن العامل الكردي فرض على تركيا إعادة الحسابات، بعد تحول "الربيع العربي" إلى غبار يلف المشهد التركي، سقط الحليف المصري محمد مرسي ومن يمثل في مشروع " الإخوان المسلمين"، ولم ينجح المشروع التركي في سوريا، تأزمت العلاقة أكثر مع العراق، وتأرجحت مع طهران وتحولت أيام العسل بين إيران وتركيا إلى قلق.
في خلفيات المشهد صراع مسلح بين المجموعات السورية المعارضة، لم يعد بمقدور المسلحين التقدم كما فعلوا في الأشهر الماضية، حتى باتت السيطرة على بلدة أو مركز عسكري مكلفة جداً كما حصل في خان العسل في ريف حلب. لكن الجيش السوري يتقدم بصمت بعيداً عن ضوضاء الإعلام من ريف دمشق إلى ريف حلب وحمص. رصدت في الشام قوافل العائدين إلى مناطق ريفية، وغادر عدد كبير من العراقيين الذين أتوا من الشام إلى بيروت بإتجاه العاصمة السورية مجدداً. لا توحي الوقائع بعودة الأمان الكلي، لكن الجيش السوري فرض أحزمة آمنة على وقع تقدم متدرج مدروس. تساعد الجيش مستجدات القتال بين المسلحين أنفسهم، وقيل إن عدداً من المجموعات المسلحة طلب العودة إلى حضن الدولة بعد تصرفات "جبهة النصرة"، لكن ضباطاً في الجيش يقولون أن أسباب العودة تتجسد في وقائع داخلية فرضتها القوات المسلحة، وخارجية في فرز "جبهة النصرة" عن " الجيش الحر" وعجز الأخير عن تحقيق أي هدف رغم الضجة الإعلامية. ماذا أنجز من دون "النصرة"؟
يتفاءل السوريون رغم الآلام بما هو قادم، ينظرون إلى مصر ويطمحون إلى الشراكة معها بعدما لاح المشروع نفسه، مع فارق الدعم الخليجي للقاهرة والهجوم بالمقابل على دمشق.
تتفرج إسرائيل على أزمة سوريا، توزع تصريحاتها تارة بالتعبير عن التخوف من المسلحين المتطرفين، وفي الوقت نفسه تداوي جرحاهم في الجولان وتنسق مع قياداتهم وتدعمهم إعلامياً في الغرب.
المشهد المتداخل يريح تل أبيب، حتى ذهب المطلعون للقول: يكفيها شرطة داخلية تضبط أمن إسرائيل بعدما زالت المخاطر في ضرب الجيوش العربية من الداخل وإستهداف المقاومة في لبنان.
لكن ماذا بعد؟
يبني بعض المطلعين معلوماته على تسريبات تقول أن الآتي قريباً أصعب من أجل فرض توازن قبل إستيلاد التسوية، لكن العالمين بما يدور في الكواليس يقولون: لا تسوية من دون إسرائيل ولا حل من دون إنهاء ألقضية الفلسطينية، وإلا فليستمر الصراع من سوريا إلى لبنان إلى العراق إلى مصر... الخيار عند الغرب: إما الموافقة على الحل لضمان أمن وإستقرار إسرائيل، وإما مزيد من إنهاك كل القوى التي تعادي تل أبيب. الهدف أن تبقى الدولة العبرية بأمان، ما عاد الغرب يخطط لإبقائها في عهدته، آن آوان إعتمادها على النفس، ولا فرصة أفضل من هذه الفرصة. الم تستهدف إسرائيل بطائراتها مراكز عسكرية في جمرايا السورية، حين لاحت تسوية الروس والأميركيين حول سوريا؟ قالت يومها: أنا هنا.