أتت زيارة الامير السعودي بندر بن سلطان بن عبدالعزيز الى روسيا لافتة بعد قطيعة امتدت بين موسكو والرياض منذ حلول ما سُمّي بالربيع العربي. المواجهة حصلت بين البلدين دبلوماسيا وميدانيا حول سوريا، وان لم تكن مباشرة بل عبر الدعم على الخطين لكل من النظام السوري والمعارضة. لم يوفر الجانبان سبيلا إلا وسلكاه من الامم المتحدة الى التسليح. لكن ماذا حصل اليوم؟ وما سر الزيارة الأميرية الى قيصر الروس؟
من البديهي الاستنتاج ان مجرد انتقال بندر بن سلطان الى روسيا يعني في الشكل استعدادا سعوديا للتفاوض مع موسكو. مهمة الامير السعودي محصورة بالأمن، والموضوع السوري هو الأولوية لكلا البلدين، علما ان الاعلان عن الزيارة يوحي بإيصال رسالة عن دلالاتها وربما نجاحها خصوصا ان التصريح الروسي كان إيجابيا تبعه تسريب معلومات حول مدة الزيارة وتحليلات تصب في خانة اعادة العلاقة بين الجانبين بعد جمود شديد في السنتين الماضيتين.
حذر موسكو من الرياض لا يقتصر عند حدود سوريا بل يمتد الى مساحة انتشار الإسلاميين من القوقاز الى سيناء مرورا بسوريا. ويعلم الروس ان للسعودية دورا في تحريك او لجم تلك الحركات. لكن الأولوية بالنسبة للفريقين يبقى الملف السوري بعد اكثر من سنتين من عمر الازمة التي لم تكسب فيها الرياض الرهان، وباتت السعودية وتحديدا الامير بندر المعني الاول بالمستجدات بعد عزل قطر عمليا عن الملف السوري.
ازداد الصراع بين الاخوان المسلمين والخليجيين وظهرت وقائعه في مصر، ووصلت إشارات الى السعودية تفيد ان الغرب لم يتخل كليا عن "الاخوان" ، ما يبقي الجماعة هاجسا بالنسبة للخليج، يزيده حصول تقارب متجدد بين طهران و"الإخوان"، ظهر في احتضان الإيرانيين لحركة حماس ومقاربة الوضع المصري بالميل الواضح الى الاخوان بعد عزل الرئيس محمد مرسي.
علمت السعودية ان خطر "الاخوان" باق اذا، في الوقت الذي عجزت فيه عن تحقيق انجازات في سوريا، لا بالعسكر ولا بالدبلوماسية او السياسة، حتى ان الأنباء التي تصل الى الرياض تفيد عن تراجع البيئة الحاضنة للمسلحين رغم كل انواع الدعم، وقد ظهر ذلك في حلب التي يتقدم فيها بصمت الجيش السوري ويحقق مكاسب في حمص وصولا الى ريف دمشق، بينما فشلت كل الخطط لضرب العاصمة، فمن يزور الشام في هذه الايام يعلم أنّ حجم الخطر زال نهائيا وأصوات الاشتباكات او القصف تراجعت كثيرا مقارنة بالأشهر الماضية، عدا عن تداعيات صراع الأكراد مع جبهة النصرة في الشمال، ومطالب الغرب بضرب المتطرفين والخوف من عودة هؤلاء الى الدول الغربية آجلا. لذلك أيقنت السعودية أن العناوين التي رفعتها المعارضة السورية بالنيابة عنها لا أمل لتحقيقها، وبالتالي فإن التسوية اليوم أفضل من التسوية غداً.
أدركت السعودية أن الحل حول سوريا لن يكون الا بموافقة الروس، لان هم الأميركيين أصبح فقط حفظ أمن اسرائيل وإنجاح التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي سارعت واشنطن لفرضها دون الطلب من العرب لعب اي دور. سابقا كان القطريون عبر رئيس وزرائهم السابق حمد بن جاسم ينفذون ما تطلبه واشنطن سريعا، ويذكر السعوديون كيف ان بن جاسم مارس في الجامعة العربية يوما ضغوطا كبيرة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس لإجهاض مطلبه الاعتراف بالدولة الفلسطينية أمميا، يومها استمر الشيخ حمد ساعات يقنع ابو مازن للتراجع تحت حجة "ما وقتها الان" ، يومها رد عباس: ماذا اقول لشعبي؟ ماذا اقول للناس؟ رد حينها بن جاسم: لا مشكلة انت وافق والمخرج جاهز ونحولك لبطل.
يستحضر السعوديون تلك الحادثة كمثال للمقارنة اليوم مع تدخل واشنطن بشخص وزير خارجيتها جون كيري وتعيين مارتن أنديك للمتابعة وفرض التسوية دون حاجة لقطر ولا للرياض.. هم الأميركيين اسرائيل لا غير. بينما امر سوريا قابل للتفاوض، ألم يتراجع الأميركيون حول سوريا؟ من يتحدث اليوم عن توقيت سقوط الرئيس بشار الاسد بعد؟
سارع الامير بندر طالبا من موسكو التفاوض بعد جولة قام بها في اوروبا وسمع من الألمان والفرنسيين والبريطانيين قلقا بشأن الإسلاميين وتوجها لإعادة النظر بالأزمة السورية ولم يستطع إقناعهم بأبسط الامور حول سوريا ولمس تغييرا جذريا متدرجا. ومن هنا كانت مسارعة بندر لفتح صفحة جديدة مع الروس، والاستعداد للنقاش حول سوريا، مع إدراكه سلفا ان الروس لن يتنازلوا في الملف السوري بعد صمود وانتصار أقله في عدم سقوط النظام و فشل رهان الآخرين.
الجميع بدا يقرأ في أبعاد زيارة الامير بندر الى روسيا، في ظل حقيقة ثابتة تفيد بأن من يسمح دوليا بسقوط نظام "الثورات العربية" في مصر وهزه لضربه في تونس وإعادة دور الجيوش، لن يسمح بوصول الإسلاميين الى حكم سوريا وإسقاط دور الجيش فيها. قد يبدو آب مفصليا وفي استقباله إشارة ظهرت من روسيا.