تخبئ مدينة طرابلس كنوزاً تاريخيةً مهمّة جداً على مختلف الأصعد، ولا سيما على الصعيد الحضاري والثقافي. ولكنها أيضاً تحتوي على مراكز دينية مميزة، ومن أبرزها مسجد طينال الذي يقع على مدخل مدينة طرابلس الجنوبي، في منطقة باب الرمل، والذي يعود بناؤه لعهد المماليك عام 1335 في عهد الأمير سيف الدين بن طينال.
من معبد فينيقي إلى "أحد أجمل مساجد لبنان"
يشكل هذا المسجد مركزا مهما خاصة ان له بيتين للصلاة، إضافة إلى قببه الخمسة، ومئذنة لها سلمان فوق بعضهما، لكل منهما مخرج، ويعتبر من أجمل مساجد طرابلس ولبنان على الإطلاق.
يتألف من باحة رخامية وتعلوه قبة ضخمة تقوم على أربع تيجان بيزنطية كورنثية، فوق اربع أعمدة ضخام من الغرانيت المجلوبة من مصر الفرعونية.
ويكسو الرخام أرضية الحرم بأشكال هندسية. وبين بيتي الصلاة بوابة هي الأروع بزخارفها ونقوشها وبهائها وتضاهي أجمل بوابات مساجد القاهرة المملوكية. أما بيت الصلاة الثاني ففيه المحراب والمنبر الخشبي من عمل المعلم محمد الصفدي 736ه/ 1336م.
ويتميز المسجد بنوره المضيء الذي يصل الى داخل القاعات، اضافة الى انه قريب من المدافن، وبرخامه في الباحة الخارجية. وبجوار الجامع 4 حجرات لقضاة المدينة على المذاهب الأربعة (حنفي، شافعي، مالكي، حنبلي).
وذكر المؤرخون انه بني على أنقاض كنيسة أشادها الآباء الكرمليين في العصر الصليبي، وهي بدورها بنيت على أنقاض آثار معبد روماني الذي بني أيضاً على أساسات معبد "بعل" الفينيقي. فمن جيل إلى جيل، شكّل هذا المكان موضع صلاة لشعوب عدّة.
يقع مسجد طينال على بعد ثلاثة دقائق من ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور) المدخل الجنوبي لطرابلس ويعتبر من أفخم جوامع لبنان حيث يقع في وسط المدينة وتحيط به البساتين من كل الجوانب، لكن بعد الامتداد العمراني غابت هذه المظاهر من امام المسجد، وبات مطوقا بالباطون.
المسجد الأثري في دائرة الخطر
يوضح إمام مسجد طينال الشيخ ابو ابراهيم العبدو، الذي يشغل منصب امام منفرد مثبت منذ 28 سنة في مسجد طينال، في حديث لـ"النشرة"، أنّ المسجد الذي مضى على بنائه اكثر من 700عام على يد الامير سيف الدين بن طينال الاشرفي المملوكي ساقي السلطان منصور قلاوون يرتاده السواح من كل اصقاع العالم يقصدونه لزيارة هذا المعلم الديني الاثري الاجمل بين مساجد لبنان.
وحتى يومنا هذا يعتبر هذا الجامع حسب ما كتبه معظم المؤرخين من أجمل الجوامع ومن أكثرها فرادة لأن هندسته لا تتبع النظام القديم للمساجد الإسلامية.
ويشكل المسجد اليوم اهم مركز ديني سياحي على مستوى العالم العربي والغربي نظرا لموقع المسجد التاريخي والاثري، خصوصًا انه شهد عدة تحولات في عدة عصور حتى صمد على بنائه الاخير.
وفي هذا الإطار، يشرح الشيخ أبو ابراهيم أن "الزوار يأتون من روسيا ومن استراليا ومن بريطانيا واميركا ومن تركيا ومن كل بلاد العرب والمسلمين والغرب، وكان قبل الاحداث الراهنة منذ حوالي السنتين يستقبل تقريبا كل يوم باصين او ثلاثة باصات"، لكنه يضيف: "اما اليوم وبسبب احداث طرابلس والاوضاع الامنية فيها انخفض العدد كثيرا وبتنا لا نشاهد زواراً الا في ما ندر بحيث تقلص العدد الى حوالي المئة زائر في السنة فقط وهذا رقم خطير يشير الى انعكاسات الاوضاع الامنية على السياحة الدينية في طرابلس".
وإلى جانب الوضع الأمني الذي يؤثر سلباً على الواقع السياحي، هناك تهديد من نوع آخر وهو الإهمال. فهذا المسجد هو من الحجر الرملي وبات اليوم بحاجة إلى ترميم، وفق ما يؤكد الشيخ أبو ابراهيم. ويقول: "قصدنا مؤسسات عديدة لترميم المسجد ولا نريد من احد مالا بل ان تعمل هذه المؤسسات باشرافها على الترميم لكن لم نلق الاذان الصاغية مما يضع هذا المسجد الاثري في موضع الخطر".
ويتابع: "حين كان فوزي حبيش وزيرا للثقافة بادر الى تخصيص المسجد بمبلغ 18 مليون ليرة وقال لنا حينها: "هذا المبلغ ليس منة منا بل هو حقكم مقرر لكل المعالم الاثرية ولا فضل لنا به" وشكرناه حينها وقمنا بترميم قبب المسجد التي كانت تتسرب منها مياه الامطار. ومنذ ذلك الوقت والى اليوم لم يبادر اي وزير او مؤسسة او جمعية الى التبرع لترميم المسجد خاصة الحمامات التي تحتاج الى مبلغ عشرة ملايين ليرة والى ترميم وتشغيل البركة المملوكية الاثرية في المسجد وتحتاج الى 5000 دولار وقد قصدنا مؤسسات كبرى لم تستجب لنا لذلك نعتمد على انفسنا بجمع تبرعات من المصلين من اجل نفقات المسجد الذي يفترض أن يلقى اهتمام الجميع".
هذا الموضوع هو الجزء الرابع من سلسلة السياحة الدينية التي تعرضها "النشرة" تحت شعار "لبنان أكثر من ترفيه.. إنه بلد السياحة الدينية أيضا". وفي الأجزاء السابقة:
الجزء الأول - المسجد المنصوري الكبير في طرابلس: موقع ديني وأهمية تاريخية
الجزء الثاني - مقام النبي جليل في "الشرقية" الجنوبية مزار ديني وقيمة تراثية وأثرية
الجزء الثالث - دير مار أنطونيوس في النبطية: أكثر من قرن على الشهادة للعيش المشترك