يتضمن الخطاب الإنقسامي اللبناني، والمسيحي منه، رمياً لمسؤولية نمو ظاهرة التشدد والتكفير على "آخر" ما، وهذا السلوك "السياسوي" يستجلب تشويهاً تاريخياً في مقاربة هذه الظاهرة الخطيرة. وفي موازاة هذا الخطاب أيضاً قراءة "قومجية" تضخِّم العامل الدولي في تغذية التشدد وتشجيعه لأهداف "استعمارية".
في هذا الخطاب الإنقسامي "الآخر" المتسبب بنمو هذه الظاهرة هو إقليمي ومحلي معاً. فتصاعد الحركات المتشددة ومرتكزاتها العقائدية وسلوكها الأمني هما نتيجة لـ"الهيمنة" الإيرانية وللنظام السوري الذي "خلقها"، خاصةً أنَّ هذا النظام الذي أسّسه حافظ الأسد هو من "بدأ بقمع الإخوان المسلمين"، أما لبنانياً فـ"الآخر" الذي صنع الحال المتشددة هو "هيمنة حزب الله".
لكن القراءة التاريخية ونصوص رموز الحركات الإسلامية التي انطلقت في أوائل القرن العشرين، تضع تنامي ظاهرة التشدد والتكفير والحال الإسلامية السياسية عموماً في إطار أوسع وأصح. كان سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية على يد أتاتورك في العام 1924 مثار صدمة في المجتمعات الإسلامية، وأضيفَ إلى التداعيات الناتجة عن الإستعمار الذي عزز الخوف من "التغريب" والحاجة إلى الحفاظ على الهوية، في زمن كانت الأفكار التي ظهرت في الغرب كـ"القومية" و"العلمانية" و"الديموقراطية" تطرق بقوة أبواب مجتمعات المنطقة.
في هذا السياق، أسَّس حسن البنا "الإخوان المسلمين" كحركة عابرة للدول ورامية إلى إقامة الحكم الإسلامي وإعادة الخلافة، ونشأت الجمعيات الإسلامية في "بلاد الشام". وفي تلك الفترة أيضاً وفي عهد الإستعمار البريطاني والتوترات بين الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية، ظهر أبو الأعلى المودودي الذي أطلق مصطلحي "جاهلية" المجتمعات و"حاكمية الله" نازعاً الشرعية عن الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية.
كان تأثير المودودي كبيراً على المفكر المصري المرهف الحس سيد قطب، الذي كرَّس مصطلحي "الجاهلية" و"حاكمية الله" مضيفاً إليهما جرعة كبيرة من التشدد والتكفير في أدبياته. ألهم سيد قطب أجيالاً من الجهاديين التي خرجت لاحقاً للقتال في أفغانستان، ومن بينها رمزها الكبير عبدالله عزام. في موازاة ذلك عرفت الحالة الإسلامية والسلفية تحديداً "مدرسة" جديدة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي بنى من سوريا اتجاهه المركِّز على تصحيح الأحاديث النبوية، مبتعداً عن "السياسة" ومفضّلاً الدعوة الفكرية و"تربية" الجيل المسلم الناشئ اعتقاداً منه أنَّ هذه الطريق تفضي في النهاية إلى إقامة الحكم الإسلامي "من القاعدة".
وقبل هذه المحطات بنحو مئتي عام، كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يؤسِّس في البيئة البدوية المنغلقة في نجد في شبه الجزيرة العربية، دعوته "الإحيائية" المستقاة من فكر الفقيه إبن تيمية والمذهب الحنبلي. وغالت الحركة الجديدة في تشدُّدها وتكفيرها للآخر والمذاهب الإسلامية، وفي محاربتها ما تصفه بـ"البدع" والحركات الصوفية والتوسل بالأنبياء وبناء القبور. وأسست دعوة محمد بن عبد الوهاب السلفية المتشددة حِلفاً وثيقاً مع الأمير محمد بن سعود وقامت بالغزوات من كربلاء إلى أطراف بلاد الشام، قبل أن تُهزم على يد محمد علي ثم تعاود بناء نفوذها في القرن العشرين. وقد منح المال الوفير الدعوة الوهابية مجالاً للإنتشار في العالم الإسلامي، ما أثار نزاعات فقهية واجتماعية واسعة.
والمفصلان اللذان ساعدا في تعزيز هذه الإتجاهات، هزيمةُ 1967 وغزو أفغانستان، لا ينفيان أن ظاهرة التشدد هي الإبنة الشرعية لمسار عقائدي تاريخي اجتماعي وللصدام مع الحداثة والرد عليها بهذا الإضطراب الكبير في العالم الإسلامي، خاصة مع التحديات الكبيرة التي طرحتها العولمة.
نشأت الظاهرة المتشددة المعاصرة في وقت كانت إيران تخضع لحكم آل بهلوي ولمَّا ترتدِ حلة الحكم الأصولي الشيعي بعد، وكان "حزب الله" غير موجود، أما النظام السوري البعثي؟...
إن ترداد بعض الأطراف لعبارة "مجزرة حماه" لا يمكنه أن يختزل القراءة التاريخية للصدام البعثي والعلماني مع إسلاميي سوريا، إلى لحظة الذروة عام 1982. صدام شباب الأحزاب العلمانية مع الإسلاميين عمره من الأربعينات، وأول رد فعل إسلامي حقيقي على نظام البعث كانت صدامات 1964 في حماه التي أوصلت إلى مواجهة مسجد "السلطان"، ومن أخمدها ليس نظاماً "علوياً" بل حكم علماني قياداته سُنية، من الرئيس الفريق أمين الحافظ إلى رئيس المحكمة الميدانية مصطفى طلاس ومحافظ حماة آنذاك عبد الحليم خدام. وفي هذا المشهد خلفية اجتماعية طبقية في صراع أعيان المدن السورية الكبيرة وبورجوازييها ذوي النهج الديني المحافظ أوالحركي، وحلف البعثيين والعسكر الآتين من الريف، السُنيّ منه والعلوي! وعندما أطلق حافظ الأسد حملته على "الإخوان" على أثر مجزرة مدرسة المدفعية في حلب 1979، فإنه من الخطأ العلمي والتاريخي التغاضي عن أنه نفذها بعد هجمات غالبيتها ذات طابع مذهبي بقيادة "الطليعة المقاتلة"، وفي ظل غضِّ نظر، من التركيبة التجارية الدمشقية بتأثير كبير من بدر الدين الشلاّح، عن معركة حماة.
من جهةٍ أخرى، وفي لمحة سريعة لا يمكن التوسع بها في هذه العجالة عن التأثير المتبادل بين الفكر الأصولي السني والفكر الأصولي الشيعي وخصوصية كل منهما، يمكن القول إنَّ الفكر الشيعي الأصولي المعاصر من "حزب الدعوة" مع محمد باقر الصدر إلى الإتجاه الخميني، هو من تأثَّر بالفكر الأصولي السني المتمثل بـ"الإخوان المسلمين" و"المودودي" و"سيد قطب"، ولو أنَّ الثورة الإيرانية منحت لدى انفجارها لاحقاً زخماً سياسياً وإيديولوجياً لبعض الحركات الأصولية الجهادية. وعندما تأسّس النظام الإيراني الحالي كان أحد أهدافه الأساسية وما زال إيجاد مظلة من تعزيز الروابط مع الحركات الأصولية السنية من مصر إلى لبنان، انطلاقاً من أن الغطاء الإسلامي العام يمنح النفوذ الإيراني المدى الحيوي الديني والإجتماعي والجيو استراتيجي.
صحيح أنَّ النظام السوري شجّع مرور "الجهاديين" إلى العراق بعد العام 2003 وغض النظر عن التمدد السلفي، وصحيح أنَّ نفوذ إيران و"حزب الله" في المشرق يعزز الإحتقان المذهبي، لكن ذلك ليس إلا جزءاً من مشهد متكامل، له مرتكزاته العقائدية ومساره التاريخي الإجتماعي.
وإذا أردنا في لبنان معرفة تحدياتنا الإستراتيجية علينا نبذ "السياسوية" وأن نكون أكثر علمية وتجرداً وأقل سعياً لتسجيل مكاسب سطحية في رقعة شطرنج محلية تكاد تلتهمها نيران الصراع الإقليمي.