هو مقام السيدة خولة في بعلبك، مقام ليس كغيره من المقامات، وقد جزءا أساسيا من السياحة الدينية في المنطقة، حيث تحوّل إلى مزار يقبل عليه المسلمون للصلاة والدعاء وقبل كلّ ذلك للتبارك والحج.
لكنّ أسئلة كثيرة لا بدّ أن تُطرح في هذا الاطار، لعلّ أبرزها عن سبب تواجد المقام في هذه المنطقة البقاعية بالتحديد، فما الذي أتى بالسيدة خولة إلى منطقة بعلبك في لبنان؟ ولماذا يوجد قبرها في هذه المنطقة بالذات؟ وإلى أيّ تاريخ يعود هذا الاكتشاف؟ وهل هناك اهتمام من الدولة به كونه ينشّط السياحة الدينية بشكل كبير؟
ما الذي أتى بالسيدة خولة إلى لبنان؟
يقول العارفون أنه، بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وفي اليوم الحادي عشر سبيت أخوات وبنات ونساء الإمام الحسين برحلة شاقة من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام. ومن الطبيعي أن الرحلة إلى الشام ستمر في بلاد ومناطق كثيرة، فركب السبايا سار من حلب وحماه وحمص مروراً بمناطق لبنانية مختلفة ومتعددة، وصولاً إلى بعلبك ومرجة رأس العين، حيث يوجد مسجد رأس الإمام الحسين (ع)، وكما هو معروف أن القوافل في السابق ونظراً للسفر الطويل في الصحاري كانت تتبع مجاري الأنهار والينابيع مخافة العطش ولسقاية الحيوانات التي معهم، وكما هو معروف بأن المنطقة الممتدة من حلب حتى البقاع غنية بالخضار وأشجار الفاكهة والأنهار والينابيع، وبالذات منطقة البقاع وبعلبك. هكذا، خط سير السبايا إذاً كان لا بدّ أن يمر في هذه المناطق. وكما تروي السير الحسينية، فإنّ القافلة حطت برأس العين، ثم بدير يعرف بدير العذارى القريب من قلعة بعلبك الشهيرة. من هنا نعلم لماذا دفنت السيدة خولة في بعلبك وتحديداً بالقرب من قلعة بعلبك الشهيرة.
متى تمّ اكتشاف قبر السيدة خولة؟
من الثابت أن رجلاً من آل جاري، وهو صاحب البستان الذي يحوي قبرها الشريف، رأى طفلة صغيرة جليلة في منامه، فقالت له: (أنا خولة بنت الحسين مدفونة في بستانك) وعينت له المكان وأمرته بالقول: "حوّل الساقية (ساقية مياه رأس العين) عن قبري لأن المياه تؤذيني"، فالمياه كانت آسنة، لكن الرجل لم يلتفت للأمر، فجاءته ثانية وثالثة ورابعة حتى انتبه الرجل فزعاً من هذه الرؤى، فهرع عندها للاتصال بنقيب السادة من آل مرتضى في بعلبك وقصَّ عليه الرؤية، فذهب النقيب ومن حضر من الأهالي وحفروا المكان المشار إليه، وإذ بهم أمام قبر يحوي طفلة ما تزال غضة طرية، فأزاحوا البلاطات واستخرجوا جسدها المبارك ونقلوها بعيداً عن مجرى الساقية وبنوا فوقه قبة صغيرة للدلالة عليه.
وما إن ذاع صيت الحادثة التي يعود عمرها لمئتي عام تقريبا حتى توافد إلى زيارة المقام محبّو أهل البيت حتى ضاق بهم المكان، فأصبح مشهدها المبارك مزاراً يأتيه العوام من مختلف المناطق والأطراف والبلاد لا سيما أيام عاشوراء والأربعين والجمعات والأعياد والمناسبات.
مزار للمؤمنين من 200 سنة
"النشرة" زارت مدينة بعلبك حيث التقت الحاج أحمد ريّا وسألته عمّن اكتشف المقام، فروى هذه الرواية وأكّدها، ما يدلّ يدل على أنها من المرويات الثابتة والمتواترة لدى سكان المنطقة. وأخبرنا الحاج أحمد أن اكتشاف المقام يعود لمئتي سنة ماضية ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المرقد الشريف مزاراً للمؤمنين والحجاج من مختلف المناطق اللبنانية والبلاد العربية.
ويشهد هذا المقام اليوم حركة واسعة للزوار من مختلف البلاد الاسلامية والعالم يأتون للزيارة متبركين بكرامات اهل بيت النبوة، مؤكدين الولاء لنهج الحسين نهج الثورة والوقوف بوجه الظالم في كل زمن، ونهج الاسلام المحمدي الاصيل الذي رسم بالدماء الطاهرة في كربلاء.
ويقول الحاج أحمد ريا لـ"النشرة" في هذا السياق: "كلما طال الزمن كثر الارتباط وكبر الانتماء وعظم التمسك بهذا النهج، واذا وقفت عند الحضرة الشريفة للسيدة خولة وتمعنت بالزوار ترى الشعوب بكل الوانها ولغاتها تتضرع وتطلب من الله ان يثبتها على خط الحسين ونهج ال بيت النبوة".
جزء مهم من السياحة الدينية ومحرك للإقتصاد
من جهته، يوضح صاحب موسوعة "تاريخ بعلبك" الدكتور حسن عباس نصرالله أن المقام يقع على قطعة أرض (تبلغ مساحتها حوالي الألف وخمسمائة متر مربع) عند المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك ومقابل قلعة بعلبك، وهي أول ما يطالعك في هذه المدينة وقلعتها، ويحيط بالمقام أرقى هندسة الأشجار الصنوبرية والحرجية، ووسط بناء المقام شجرة سرو معمِّرة ونادرة عمرها يربو على مئات السنين،حتى بدأ الايرانيون مع فريق من بعلبك باعادة ترميم المقام بشكل يليق بالسيدة خولة على غرار اضرحة اهل البيت، وذلك من خلال القباب المذهبة والمرايا والقاشاني، ويشير إلى أنّ هذا الضريح كان متواضعا قبل الترميم .
ويعتبر المكان محجاً للزوار من كافة المناطق اللبنانية، حيث يصلون ويتضرعون الى الله وليس للاضرحة وقد ذاع صيت المقام وكرامة صاحبته التي كانت ضمن ركب السبايا إلى الأمصار العربية والإسلامية. فصرتَ تجد القاصدين لزيارتها من سوريا وإيران ودول الخليج والدول الإسلامية.
من القرن التاسع عشر ياتي زوار السيدة خولة بهدف الحج والتبارك خصوصا في ايام عاشوراء وبمناسبات اخرى، وهنا الاهمية بعد توسيع الضريح الذي اصبح واحدا من اربعة اضرحة نسائية التي تحتوي على قباب مذهبة وهي السيدة زينب في سوريا وضريح المعصومة في قم وضريح السيدة رقية في دمشق وضريح السيدة خولة في بعلبك الذي أصبح توافد الزوار إليه بعد الاحداث في سوريا هو الأكبر.
واليوم يأتي الزوار اليه في المناسبات وغير المناسبات، وتقام فيه احتفالات دينية عدة، وهناك الكثير من المسلمين وغير المسلمين ياتون الى الزيارة وهذه السياحة الدينية تشجع وتزيد من الحركة الاقتصادية خاصة المطاعم والفنادق وغيرها، وهي جزء مهم من السياحة الدينية في مدينة بعلبك، بالاضافة طبعا الى الدور الأساسي الذي تلعبه قلعة بعلبك الاثرية على هذا الصعيد.
ويلفت نصرالله إلى انه "مقام كبير يتألف من ققص حديدي كبير، ويتخلل هذا القفص فتحات صغيرة على شكل نوافذ، وبداخل هذا القفص احتفظ بالقفص الخشبي الصغير والقديم والذي يحتوي بداخلة ضريح السيدة خولة"، ويشير إلى أنّ هذا القفص الحديدي مزدان بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة وأقوال لأئمة أهل البيت عليهم السلام من جميع الجهات. ويضيف: "ثم لو نظرت إلى جدران المقام العالية فكيفما توجه نظرك تجد أقوال وأحاديث مزخرفة بطريقة جميلة يختلط فيها الألوان ما بين الأزرق والأبيض والكحلي، بطريقة تبهر النظر، حتى كتابة الأقوال والآيات القرآنية فقد كتبت بخطوط عربية مختلفة الأشكال والألوان".
هذا الموضوع هو الجزء السابع من سلسلة السياحة الدينية التي تعرضها "النشرة" تحت شعار "لبنان أكثر من ترفيه.. إنه بلد السياحة الدينية أيضا". وفي الأجزاء السابقة:
الجزء الأول -المسجد المنصوري الكبير في طرابلس: موقع ديني وأهمية تاريخية
الجزء الثاني -مقام النبي جليل في "الشرقية" الجنوبية مزار ديني وقيمة تراثية وأثرية
الجزء الثالث -دير مار أنطونيوس في النبطية: أكثر من قرن على الشهادة للعيش المشترك
الجزء الرابع -مسجد "طينال" الأثري لا يزوره السواح "لأسباب أمنية" والحاجة ماسّة إلى ترميمه
الجزء الخامس -كنيسة سيّدة الزلزلة العجائبية في زحلة: موقع ديني مهم حمى أبناء المدينة على مرّ العصور
الجزء السادس -زحلة والبقاع تتبارك بمقام سيدتها... والسياح من حول العالم يقصدونه للصلاة