30 عاما مرت وهم مخفيون في السجون السورية. 30 عاما ولا من يسأل عنهم ويتابع أحوالهم، سوى أمهات لم يبقَ لديهن أيّ أمل سوى في خيمة إعتصام مضى على وجودها 7 سنوات في حديقة الإسكوا في وسط بيروت، ومجتمع مدني يتخبط بين التعريفات والتسميات. فهذه الخيمة شهدت ولا تزال تشهد على الوعود الكثيرة التي أغرق المسؤولون الأهالي بها، دون أي أمر ملموس على أرض الواقع، فاللجان لمتابعة الملف تشكلت، لكنها لم تصل لنتيجة. صرخات أصحاب الضمير في وطننا لم تلقَ آذانا صاغيا، لا عند مسؤولينا ولا عند السوريين، الذين لو أصيبوا بما أصاب اولئك، لما أبقوا على حرية أكثر من 600 لبناني محتجزة حتى هذه اللحظة تحت عناوين واهية وتهمٍ يعرفون في قرارة أنفسهم أنّها ملفّقة.
المطلوب تصحيح المسار وطريقة التعاطي مع الموضوع
ملف اللبنانيين المفقودين في السجون السورية لم يلقَ حيّزاً كبيراً من إهتمام المسؤولين اللبنانيين من رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات ووزراء ونواب، بل كان عنوانا كبيراً يستغلّه المسؤولون صوريّاً في خطابات القسم والعناوين العريضة للبيانات الوزارية وعنواناً عريضاً للمشاريع الإنتخابية لنوابنا الكرام. هذا الملفّ أرهقته في المقابل المقاربات الإنسانية والإجتماعية التي تتعاطف مع أهالي المفقودين وذويهم، فالملف، بحسب رئيس لجنة "سوليد" غازي عاد، "بحاجة إلى توصيف وشرح وعرض للحلول ووضع كل مسؤول أمام مسؤولياته، والمطلوب اليوم تصحيح المسار وطريقة تعاطي الناس مع الموضوع". ويرى عاد في هذا الاطار أنه "يجب توضيح المصطلحات التي نستخدمها في طرح الملف، فاللبنانيون في السجون السورية ليسوا معتقلين كما يدعو البعض إلى تسميتهم، فهم ليسوا محكومين بجرائم، بل "هم ضحايا للإخفاء القسري، جريمة متمادية ضد الانسانية حتى معرفة المصير"، بحسب القانون الدولي".
في المقابل، يعتبر رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية علي أبو دهن أن "تسمية "المخفيين قسرا" تعطي النظام السوري حقا ليبقي على إخفائه للمعتقلين"، موضحا أن "هناك لائحة بأسماء 622 معتقلا سلمناها للقضاء، وتم تسليمهم عبر القاضي جورج رزق إلى اللجنة اللبنانية-السورية التي شُكّلت عام 2005".
اللبنانيون في السجون السورية ليسوا معتقلين
يشرح غازي عاد لـ"النشرة" أهمية توصيف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية على أنهم "مخفيون قسرا"، لأن هذه التسمية تحفظ حق أهلهم بمعرفة مصيرهم، وملاحقة الموضوع والحصول على تعويضات، فضلا عن حق الضحية"، موضحا أن "اللبنانيين في السجون السورية ليسوا معتقلين، والسلطات السورية لم تتعامل معهم على هذا الاساس، لأن للمعتقل حقوقا لم تعطها السلطات السورية لهم، وعلى رأسها حق حصول ذويهم على زيارات لهم في السجون".
القضاء في المقابل، يقف في صف عاد والداعين إلى استخدام مصطلح "إخفاء قسري"، حيث أشارت مصادر قضائية متابعة للملف لـ"النشرة" إلى أنه "يُفضّل استخدام هذا المصطلح لحفظ حقوق اللبنانيين في السجون السورية"، موضحة أن "المعتقلين تنطبق عليهم تهم جنائية وجزائية وجنح وجرائم، فيما المخفيون أو المفقودون هم أشخاص خطفوا بالقوة وتم اتهماهم زورا ليبقوا مخفيين". وفي هذا الإطار، تميز مصادر في الأمم المتحدة بين "الإخفاء القسري" و"الإعتقال"، موضحة أن "الإخفاء يعني أنه تم خطف شخص بمعرفة الدولة أو قوى الأمر الواقع، بينما المعتقل هو شخص محروم من الحرية ومعروف مكان وجوده ومعترف بوجوده"، وهذا ما لا ينطبق على اللبنانيين الذين لم تعترف سوريا بوجودهم في سجونها.
النظام السوري لا يعترف بوجود معتقلين أو مخفيين
وحتى الساعة، لم يعترف النظام السوري، من أيام الأسد الأب (حافظ الأسد) وصولا إلى الأسد الإبن (بشار الأسد)، بوجود لبنانيين معتقلين أو مخفيين في سجونه، ومن اعترف بهم، محكومون بأحكام قانونية تتعلق جميعها بالمخدرات والزنا والسرقة، وليسوا ممن فقدوا خلال الحرب والأحداث اللبنانية. وفي هذا الإطار يطالب عاد بـ"تسليم سوريا اللبنانيين المخفيين في سجونها، والذين لا تعترف بوجودهم، وباتوا بفعل الزمن وإنكار السلطات للأمر ضحايا إخفاء قسري". وبعيدا عن الداخل اللبناني، وما قد يُدخل القضية في سجالات سياسية واسعة، فإن منظمة العفو الدولية تبنت قضية المفقود في سوريا نجيب يوسف جرماني، الذي اعترفت سوريا بوجوده في سجونها في برقية للسفارة السورية في ستوكهولم وجهتها إلى المنظمة، قبل أن تدعي لاحقا أنها مزورة. وإن سلّمنا جدلاً أن هذه البرقية مزورة فعلا، فإن خروج كل من طوني جرجس تامر عام 2004 من السجون السورية، وجورج أيوب شلاويط عام 2005، واللذين تتضمن البرقية اسميهما إلى جانب جرماني، دليل قاطع وأكيد على وجود لبنانيين مخفيين في السجون السورية لا تعترف بوجودهم السلطات هناك. وفي هذا الإطار يشدد أبو دهن على "أننا لا نتوقع أن يقوم النظام السوري بالاعتراف بوجود معتقلين لديه"، مشيرا إلى أن "رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري كان قد كلف سابقا الوزير السابق جان أوغاسابيان بتسليم لائحة بأسماء المعتقلين إلى الجانب السوري الذي شدد على أنه على رؤساء الحكومتين اللبنانية والسورية درس الملف"، معتبرا أن "في هذا الوعد إعترافا ضمنيا بوجود لبنانيين معتقلين في السجون السورية".
ويصر أبو دهن على تسمية المفقودين بـ"المعتقلين"، موضحا أن "تسمية "المخفيين قسرا" تلغي وجود 622 معتقلا في سوريا وتضعهم ضمن 17 ألف مفقود في لبنان، وبالتالي تدخلنا في متاهات نبش القبور وتضييع الملف، وتعطي نفسا أطول للنظام السوري وتسهل الأمر عليه"، قائلا: "نحن مقابرنا كانت بالقرب من سجوننا في سوريا". في المقابل يشدد عاد على "ضرورة إنشاء الهيئة الوطنية للمخفيين قسرا التي تتلقى طلبات الأهالي وتحقق فيها، وتقوم على أساسها بتحريات واستقصاءات تحدد بموجبها الجهة الخاطفة أو التي تحتجز الحرية، لتسمح بعدها بمطالبة رسمية بالمخطوفين أو المخفيين". أما أبو دهن فيقول ببساطة: "هذه الهيئة لا تعنينا كمعتقلين ونحن نريد ملفا مفصولا عن ملف المخفيين قسرا".
وبينما تبدو مقاربة الأفرقاء المعنيين بالملف شبه متناقضة، يبقى من البديهي السؤال: هل تكون وحدة المجتمع المدني في تعريف الملف وتصنيفه شرطا لإنشاء الهيئة الوطنية للمخفيين قسرا وإعادة فتح الملف مع الجهات المعنية في الدولة السورية؟ وهل تضيع قضية اللبنانيين المفقودين في السجون السورية بين دهاليز التسميات والتصنيفات والسجالات السياسية؟