في المبدأ، ينطلق النائب من شعبيته في مسقط رأسه ليتوسع الى مختلف بلدات القضاء. تجربة النائب ميشال المر مثالاً. سامي الجميل مثالاً ثانياً، وهاغوب بقرادونيان مثالاً ثالثاً. كان يمكن نوابَ التيار الوطني الحر أن يتربّعوا على كراسي بلداتهم في المتن الشمالي هم أيضاً، لولا شغف بعضهم بـ«الحرتقات»، والنيابة «الافتراضية» للبعض الآخر
يقضم النائب نبيل نقولا لقمته الأولى من منقوشة اللحم بعجين قبل أن يردّ على سؤال أحد الشباب عن الوضع المتني. على الطاولة ستة شبان تجمعهم «كرتونة» اللحم بعجين التي أتى بها أحد مخاتير المتن الشمالي الى مكتب نقولا. لا تفرقهم السياسة رغم تنوّع انتماءاتهم بين عوني وكتائبي وقواتي. يصعب على مراقب الوافدين الى مكتب النائب المتني استيعاب كيف يمكن نقولا أن يجتذب قواتياً، مثلاً، أو أحداً من أنصار النائب ميشال المر. يجلسون وكأنهم رفاق حزب واحد، يناولون بعضهم بعضاً زجاجات اللبن، يضحكون ويتناقشون.
تبدأ بفهم اللعبة عند مقابلتك مدير مكتب نقولا. سريعاً ما يتبيّن لك أن نقولا ليس من يبثّ الحماسة في شباب المتن الحزبيين، بل «دينامو» المكتب الشبابي والخدماتي. هنا تتنوع المهمات من طلبات الاستشفاء، الى أرقام هواتف ومساعدات متنوعة، الى طلبات شخصية صغيرة لا تخطر في بال أحد. والخدمة لا تقتصر على العونيين، بل تشمل مختلف الأحزاب. ولكن يضمحل تأثير كل تلك اللقاءات الشبابية والخدمات عند رؤية الصورة الكاملة: يهوى نقولا تأجيج الخلافات، يزكّيها بدل إخمادها، والأهم من ذلك أن كل المشكلات تصبّ في صفوف التيار الوطني الحر. يصدف أن منسق هيئة القضاء، هشام كنج، ينتمي الى بلدة نقولا، جل الديب. كان من المفترض أن يحافظ النائب على علاقته بكنج ويستثمرها داخل البلدة أولاً، وعلى صعيد القضاء ثانياً. لم يحدث ذلك، بل شيئاً فشيئاً اتسعت رقعة الخلاف لتشمل منسق جل الديب طارق الحجل أيضاً. اليوم نائب جل الديب العوني على خصومة مع منسق هيئة التيار في البلدة ومنسق قضاء المتن الشمالي (وهيئة القضاء كاملة) وعدد من العونيين الذين يقفون في صف المنسّقين. ما سبق كافٍ لغوص نقولا في حرتقات حزبية صغيرة في منطقته التي يمسكها رئيس بلدية مقرب من النائب ميشال المر، ما يزيد الأمور المعقّدة تعقيداً. ونتيجة لذلك، بإمكان نقولا التأثير في أي بلدة بقدر أكبر مما يستطيع فعله في مسقط رأسه.
ليس بعيداً عن جل الديب، يقع «البيت الأبيض» أو مكتب النائب إبراهيم كنعان. رغم غياب الكيمياء ما بين كنعان ونقولا، إلا أن نقاط التشابه بينهما كثيرة. لم يقدما أي مشاريع خاصة لبلدتهما سوى توسيع رقعة الخلافات بين أهالي المنطقة. خدماتياً، يعمل كنعان خلافاً لجاره. يغلب الطابع الخدماتي الكبير لنائب منطقة الجديدة على الخدمات الشخصية، أي تزفيت طرقات القضاء ومدّ شبكات المجارير للبلدات المحتاجة وتأهيل البنى التحتية والتبرع للكنائس الى ما هنالك. وبحسب المراقبين، ذلك لا يجدي نفعاً ولا يعوّض تأثير الخدمات الخاصة في الميزان الشعبي، إلا إذا كان القصد من تلك الأعمال منافسة «دولة ميشال المر».
لمنطقة الجديدة ــــ البوشرية ــــ السد (مسقط رأس كنعان) رئيس بلدية «مرّي» أيضاً، والبلدة ثاني قلاع العمارة، بعد بتغرين طبعاً. كان من المفيد لكنعان أن يحتضن نائب رئيس البلدية العوني منصور فاضل، ليثبّت قدمه في تلك القلعة. ولكنه، كزميله نقولا، اختار خصومة فاضل وعضوين عونيين آخرين داخل المجلس البلدي. فانقسم العونيون بين «جماعة كنعان» و«جماعة فاضل»، وباتت المعارك تخاض بين الفريقين، فيما المرّ يستلذ بالمشاهدة. سابقاً، كان الحكم بين عونيي البلدة، منسقها أمين يزبك، إلا أنه تمت الاستعاضة عنه بالمنسق سمير السمرة الذي ناصر كنعان، فدخلت الهيئة هي الأخرى في معارك الطرفين. في المقابل، يُحسن كنعان العمل مؤسساتياً داخل بلدته، فيقبض على نادييها الرياضيين (البوشرية والأنوار)، محاولاً الدخول من خلالهما الى الشباب المتني. إلا أن صورة خلافاته مع نقولا تلاحقه، فتغمض العين عن إنجازاتهما ولا تفتح إلا على المشكلات المناطقية. لذلك يظهران بصورة «المبغوضين»، كل في مسقط رأسه.
خلافاً لكنعان ونقولا، لا ناقة ولا جمل لنواب التيار الباقين في بلداتهم. هنا وجهان آخران متشابهان: النائب سليم سلهب (بعبدات) والنائب غسان مخيبر (بيت مري). لا يستسيغ الأخيران لقب «عوني». هما أشبه بخليفين للتيار، ويتصرفان كضيوف في المناسبات الحزبية، فلا يعانيان حرتقات زملائهما. لا يعني ذلك أنهما يعملان في بلداتهما بمعزل عن التيار. هناك أيضاً يحلان ضيوفاً على الأهالي. لا مكاتب خدماتية ولا منازل مفتوحة للراغب في زيارتهما. منذ ما يقارب العامين وأكثر، يغرق أوتوستراد المتن السريع الذي يوصل الى منطقة بعبدات في الظلام والردميات. الأكيد أن سلهب التفت خلال السنوات الأربع المنصرمة في طريقه من بعبدات وإليها، إلى تلك الشواذات. والأكيد أن آلاف الشكاوى وصلت الى مكتبه في ساحة النجمة. لكن ذلك لم يحرك فيه ساكناً، هو طبيب ... طبيب فقط. أما مخيبر، فطموحه أبعد من المتن الشمالي. يحبذ الأخير التجربة الفرنسية ويحتذي بها، فيحصر عمله بالتشريع بعيداً عن الخدمات واللقاءات الشعبية والاجتماعية ونسج العلاقات مع فاعليات البلدة. في بيت مري، يسعى فقط إلى المحافظة على الإرث المخيبري، ولو اضطره ذلك الى خوض المعركة البلدية ضد التيار الوطني الحر.
النموذج العوني الأخير لا يشبه أياً مما سبق. يكتفي النائب إدغار معلوف بالغرف من تاريخه العسكري مع النائب ميشال عون لكسب الأصوات الانتخابية. تجربته اللاخدماتية واللاتشريعية واللاسياسية جعلت من رقمه الصعب في عام 2009 رقماً يسهل استبداله اليوم. لم ينسج علاقات داخل بلدته كفرعقاب ولا خارجها، يشمل ذلك المشاريع الإنمائية والحضور السياسي والشعبي.
في مقابل نواب التيار الخمسة، الذين لا يحكمون السيطرة على بلداتهم، ثلاثي نيابي يتشابه في التجربة. ليس بإمكان مناطق بتغرين وبكفيا وبرج حمود إلا أن تصرخ بأسماء زعمائها، فلا مشكلات ولا خلافات داخلية ولا من يحزنون. في بتغرين، النسبة الأكبر من الأهالي موظفون في الدوائر الرسمية بأمر من النائب المر، ورئيسة البلدية ليست إلا ابنته ميرنا. تمكن المر، خلال سنوات «حكمه»، من تطوير بتغرين وتحويلها من ضيعة الى مدينة وإغراقها بالمشاريع الإنمائية وزيادة مساحتها! أمسك مفاصل بلدته من الطرف الذي يوجعها... في الواقع، يمكن تعداد المتنيين الذين لم يزوروا العمارة (مكتب خدمات المر) على أصابع اليد.
ليس سامي الجميل كالمرّ طبعاً، فلا مشاريع استثنائية لبكفيا ولا خدمات تفوق الطبيعة، إنما القاعدة الكتائبية تناصره بأغلبيتها ولا وجود فعلي لأي أحزاب أخرى في ظل سيطرة آل الجميل على الضيعة بشكل شبه كامل، من رئيس بلديتها الى مخاتيرها ومدارسها ونواديها الرياضية. أما في برج حمود، حيث النائب هاغوب بقرادونيان، فالأرمن واضحون في خياراتهم: نحن طاشناق إذاً نحن مع بقرادونيان، وعندما يقرر الحزب استبداله سنؤيد البديل. إذاً تربع بقرادونيان على كرسي برج حمود الأول وقلوب الطاشناقيين لا يرفع من أسهمه الحضور السياسي أو الخدماتي أو التفاعل الاجتماعي. يكفي الطاشناق أن يعلن مرشحه ليتسلم الأخير مفاتيح البلدة مباشرة، حتى لو لم يكن ينتمي إليها. بقرادونيان مثالاً.