بعد صمود اسطوري ابدته سورية خلال حرب كونية شنت عليها وزجت فيها ضدها جماعات مسلحة وارهابية تكفيرية لنيف و30 شهراً، تبدل مؤخراً المشهد العام، وانقلبت اتجاهات الحركة الدولية بعد التغير في المعادلات التي رسمت في الميدان خلال الأشهر الاخيرة
تبدلاً حصل الى الحد الذي يمكننا من القول بان الازمة تتحضر للانتقال الآن من مرحلة «النار لتحقيق الاغراض» اي منطق الحل العسكري عبر الحسم في الميدان كما تصورته وتوخته القوى المعتدية بتوجيه اميريكي، (قوى تدرجت في تصعيدها العسكري حتى الوصول الى التهديد بالتدخل العسكري الامريكي المباشر)، الى مرحلة «لا حل إلا بالحوار والتفاوض» اي منطق الحل السلمي، حيث باتت وظيفة النار في الميدان منحصرة في هدفين: الاول هو خدمة الدبلوماسية للضغط في التفاوض والثاني من اجل تطهير الارض السورية من الخارجين على منطق التعايش الوطني في دولة علمانية يلتقي فيها جميع مواطنيها من كل القوميات والاديان والمذاهب. مرحلة لا بد للمتابع أن يستقرئ خصائصها من الحراك الدولي خلال الاسابيع الاخيرة والذي تكلل باتفاق جنيف بين وزيري الخارجية الروسي والاميركي منذ يومين (السبت 14 ايلول).
وقبل الدخول في المرحلة الجديدة كانت الامور قد وصلت كما ذكرنا الى حافة الانفجار الذي كان يمكن ان يدمر المنطقة فيما لو حصل، ومع اننا كنا نرى ان منطق «المصالح والمخاطر وتوازن الردع» كان سيحول دون تنفيذ اميركا لتهديدها بالعدوان على سورية ولهذا كنا نقول بانها «لن تجرؤ على الحرب...و... ان الحرب مستبعدة»، الا اننا لم نسقط احتمال الخطأ الاميركي في الحساب حيث بقي احتمالا قائماً وان بنسب منخفضة، والآن وقد حصل ما حصل من شأن المخرج الذي تمثل بالمبادرة التي نطقت بها روسيا في سلوك منسق مع ايران وسورية، بلورته حنكة سياسية وحذاقة دبلوماسية جعلت المبادرة وكانها نتاج روسي – اميركي مشترك من اجل اسدال الستار على مشروع الحرب والعدوان، مبادرة اتخذت من السلاح الكيماوي مدخلاً ولكن الافق والفضاء يتوسع حتى يشمل تصور الحل للازمة في سورية بداية ومنها الى المنطقة التي بات هي والعالم وسورية تحديدا - كما يبدو- في مواجهة حراك دولي سيؤسس عليه من اجل تحديد المعايير التي تضبط الحركة في العلاقات الدولية كما تتخذ عناصر فاعلة في النظام العالمي الجديد الذي قلنا منذ سنتين بانه نظام يولد من الرحم السوري. وفي هذا السياق فاننا نسجل اهم ما في هذه العناصر والملامح كالتالي:
1) العودة الى احترام قواعد القانون الدولي العام والاقرار بأن المؤسسات الدولية خاصة مجلس الامن هي المكان المناسب لاتخاذ القرارات المتعلقة بشأن دولي بشكل عام وبسورية الآن بشكل خاص. وبالتالي سيكون مجلس الامن – كما ينص ميثاق الامم المتحدة – هوالمخول حصريا باتخاذ قرار استعمال القوة ضد أي دولة أو فئة أو اقليم، الامر الذي يضع حدا لنزعة التفرد الاميركي باستعمال القوة العسكرية ويكون في هذا الامر اول تنفيذ ثنائي متوازن للمبادرة الروسية، حيث انه في الوقت الذي اعلنت فيه سورية انضمامها لاتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيماوية تعلن اميركا وتؤكد مرجعية مجلس الامن في استعمال القوة خلافاً لما كانت تهدد به واسمي ضربة عسكرية ضد سورية ورأينا فيه عدواناً لا يبرره القانون الدولي. ولا يخفف من هذا التوازن في التنفيذ ما رافق المواقف في جنيف من اقوال اميركية من قبيل الحديث عن ان «اميركا جاهزة لاستعمال القوة للدفاع عن نفسها»، أو قول بأن «أميركا ستلجأ الى القوة اذا فشلت الدبلوماسية»، لاننا نرى في الموقف الاول لزوم ما لا يلزم فسورية لم تهدد اميركا يوماً أما في الثاني فهو برأينا من قبيل المواقف الاعلامية التي تطلق لتخفف من وطأة التراجع الاميركي عن التهديد بالقوة، ومحاولة لحفظ الهيبة الامريكية خاصة في اعين الحلفاء.
2) الاقرار بان لا حل في سورية إلا الحل السلمي الذي يتم الوصول اليه عبر «التفاوض والحوار»، وفي هذا الامر مكسب وانتصار لسورية، خاصة اذا تذكرنا أن الحكومة السورية هي اول من نادى وعمل من اجل حل حواري وطني يتم الوصول إليه بالحديث المباشر بين السوريين، ويقود الى تشكيل السلطة عبر العودة الى الشعب الذي يجب ان يعترف له بحقه باختيار حكامه وبقراره المستقل. ونعتقد أن في هذا الامر خيبة امل للاطرف والجهات التي ارتمت في الحضن الاجنبي متوخين ان ينصبهم حكاما على سورية كما نصب من قبل حكاما في الخليج على ممالك وامارات ومشيخات فصلت على قياس كل منهم. ولهذا سيكون مؤتمر جنيف 2 (او سواه من المؤتمرات الدولية المشابهة) – الذي تهرب منه الغرب ل 15 شهراً خلت - هو المكان والوسيلة المتاحة للبحث عن هذا الحل وسيكون على اميركا والغرب ان يفرزوا ادواتهم السورية التي استعملوها بين فئة لا تتناسب مع علمانية الدولة وفئة يمكنها الانخراط فيها، واقصاء الاولى عن المسرح والزام الثانية بقبول الحل الذي ينهي الارهاب على الأرض السورية ويعيد الى الدولة استقرارها بمشاركة الجميع وفقا لحجمهم التمثيلي الحقيقي.
3) الاقرار بان التخلي السوري عن الاسلحة الكيماوية، إنما هو نتيجة طبيعة لانضمام سورية لاتفاقية حظر انتشار هذه الاسلحة، وانه يأتي ضمن سياق اتفاق دولي لاعلان منطقة الشرق الاوسط خالية من سلاح الدمار الشامل، وهذا ما سارع جون كيري بعد اتفاق جنيف مع لافروف لابلاغه كما يبدو لاسرائيل. ومع هذا الانضمام السوري للاتفاقية يكون التخلص من المواد الكيماوية عملاً تنفيذياً عادياً وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية التي انضم اليها 193 دولة قبل سورية، ووفقاً للآلية المحددة في هذه الاتفاقية وليس خضوعاً لأي أمر أو إملاء يأتي من اي جهة. وعلى هذا الاساس نرى أن بعض المواقف التي تطلقها أميركا على هامش هذه القضية لا تعدو كونها محاولة لكسب معنوي اعلامي لا يمكن صرفه في الواقع. ثم ان انضمام سورية الى هذه الاتفاقية لن يكون عملاً منفرداً بل هو سلوك يؤسس عليه مستقبلاً في منطقة الشرق الاوسط نحو إقامة منطقة خالية من سلاح الدمار الشامل، ما يعني اسرائيل ايضا التي تمتلك250 رأساً نووياً وكميات كبيرة من الاسلحة الكيماوية عليها وضمن موقف دولي واحد ان تنخرط في هذا السلوك أيضاً، وهنا ينبغي ان نلفت أيضاً الى أمر هام بان اتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيماوية واستعمالها تفرض على الدول الاعضاء فيها مساعدة من يعتدى عليه بسلاح كيماوي من أجل ردع العدوان، وفي الشأن المبحوث فيه تكون روسيا بالنسبة لسورية معنية مباشرة بضمان هذا الامر.
4) سقوط مشروع اقامة الدولة الدينية التكفيرية في سورية ومنها الى المنطقة كلها، والاقرار بان الدولة العلمانية التي تجمع كل القوميات ومن كل الاديان هي الحل المناسب لسورية الموحدة، وفي هذا تأكيد على سقوط المشروع –العدوان على سورية والمنطقة وهو المشروع الذي هدف الى اقامة دول دينية متطرفة، يكون بعضها بادارة «الاخوان المسلمين» في ظل صفقة الغرب معهم لانشاء هلال حماية اسرائيل، وبعضها الآخر يحكمها الفكر الوهابي التكفيري لاقامة نظام حماية المصالح الغربية خاصة النفط. ويكون الاقرار الدولي الآن بالتمسك بالدولة السورية العلمانية موقف يقطع الطريق على ما يتوخاه الاخوان والوهابيون التكفيريون في سورية ويكون سقوط الحلم هذا بمثابة المحاكاة لسقوط حكم الاخوان المسلمين في مصر. وتكون هذه النتيجة من اهم نتائج نجاح سورية في معركتها الدفاعية، نجاح حال دون تقسيمها على أساس طائفي أو عرقي أو حكمها على أساسي تكفيري وهي الصيغ التي ارادتها اسرائيل لتبرير يهودية الكيان المغتصب لفلسطين وهو الهدف الرئيس من العدوان أصلاً.
5) تشكل موقف دولي لمواجهة العصابات التكفيرية والارهابية وملاحقتها وقمع جرائمها. وهنا نلفت انه طوال المرحلة السابقة كانت اميركا ومعها كل من حشدته ضد سورية، كانت تعتمد على هذه الجماعات وترفض الاشارة بأي شيء من السلبية لسلوك تلك العصابات وجرائمها – لانها كانت أداتها في العدوان أصلاً - حتى ان موقفها ضد جبهة النصرة وتصنيفها إرهابية كان موقفا اعلاميا لم يتبعه سلوك يناسبه، لكن الآن سيتغير الأمر بعد ان بات واضحاً عجز أي عمل عسكري عن المس بالدولة السورية ونشوء حالة الاحراج من سلوكيات الارهابيين مع دخول روسيا بما تملك من قدرات لمراقبة وتسجيل الحقائق طرفا في اتفاق دولي يدعمه الغرب (اميركا وبريطانيا وفرنسا والبقية تأتي) ومجموعة بريكس ومجموعة شنغهاي، اما المثلث الاقليمي المؤلف من السعودية وتركيا وقطر فانه عرف كما يبدو أنه خسر الحرب وان لا قيمة لدعمه أو رفضه للاتفاق، وان استمراره في دعم الارهابيين لن يغير في اتجاه النتائج بل سيرتد عليه خسرانا اضافياً.
وفي كلمة اخيرة نقول ان سورية والمنطقة والعالم امام مرحلة جديدة خطت خطوطها الرئيسية في الميدان السوري بقلم سورية المقاومة ومحورها وجبهتها الدولية، مرحلة لم يكن الاتفاق حول الكيماوي إلا مدخلا لها، مرحلة تختصر بكلمات: «ان سورية المقاومة صمدت دافعت فانتصرت»، ولكن يبقى وقت لبلورة الانتصار وصنع الاستقرار، وقت سيحاول الخاسرون ملأه بالصراخ والصخب الذي لن يغير النتائج.