"لمّا موت، دفنوا جثّة داوود فوق جثتي حتى شمّ ريحتو".. وصيّة طلبتها أم داوود قبل موتها بفترة وجيزة، هي التي عاشت 30 سنةً من عمرها تنتظر عودة نجلها داوود يوسف لحود الذي فقد في 24 كانون الثاني من عام 1983 من زقاق البلاط، قبل أن تعرف العائلة بعد مضيّ سنوات أنه قابعٌ في السجون السورية.
تُشبه حكاية داوود قصص الأفلام. فهو كان صاحب محل في منطقة الحدث، وطلب منه أخوه أن يحضر له آلة لطحن البن إلى إحدى مدارس زقاق البلاط، والتكفل بها. لم يرفض داوود الطلب. في اليوم الثالث لزيارته المنطقة، أوقفه حاجز للجيش اللبناني تحت جسر بيروت، في طريقه إلى زقاق البلاط. سأله العسكري عن أوراقه الثبوتية، فسقطت من بينها ورقة حزبية. لم يكن يومها داوود متحزبا، فهو كان قبل عام من هذا التاريخ قد اعتزل العمل الحزبي لتعرضه لإصابة بالرصاص. دخل داوود المدرسة، وما لبث أن أنهى عمله، حتى طوّقتها عناصر مسلّحة تابعة لأحد الأحزاب، وأوقفته واقتادته معها في سيارته التي كان يستقلها، قبل أن يعثر على السيارة بعد أسبوع من الحادثة في شارع "Mme Curie" قرب جامع قريطم. معلومات "النشرة" تشير إلى أن داوود أخفي في منزل زعيم كبير، وأنه تم منع قوى الأمن من تطويقه تمهيدا لتحريره.
بعد مرور 4 أشهر على اختفائه، بُلّغ أهل داوود أنه لا يزال حيّا وموجود في مدرسة في قرية لبنانية، ولا يزال يتناول دواءه بإنتظام. داوود بدوره لم يصدّق بعد هذه الفترة أن أهله لا يزالون يسألون عنه وأنه لا يزال على قيد الحياة.
في حزيران من العام 1987، أي بعد مرور 4 سنوات، تمكّنت عائلة داوود من التواصل مع قياديٍّ في الحزب الذي خطفه، الذي طلب مبلغ 50 ألف ليرة تُدفع للمحكمة المدنية للتمكن من إطلاق سراحه، على أن يُخرجه من السجن الذي وضع فيه، بإسم مستعار وهو "عفيف لطفي مسعد" من برجا. المحاولة لم تتم. أوقف القيادي في اليوم الذي سبق الموعد الذي حدّده للعائلة لإطلاق سراح ابنها. في ذلك اليوم، تلقّت العائلة أولى صدماتها، التي لم تنتهِ عند هذا الحدّ، بل توالت فصولا.
لا تملك العائلة دليلا حسيّا على وجود داوود في السجون السورية، بل جلّ ما تعرفه هي "خبريّات" عنه من هنا وهناك. شقيقته جميلة تشير، في حديث إلى "النشرة"، إلى أنه "بعد توقيع إتفاق الطائف سلّمت كل الأحزاب مخطوفيها إلى السلطات السورية"، لافتة في الوقت عينه إلى أنها "تعرّفت، بعد مرور أكثر من 15 عامًا على اختفاء أخيها، إلى إمرأة قالت أن زوجها مخطوف في سوريا، وتعرّفت من خلالها على رجل سوري ساعدها في قضية داوود". هذا الرجل أعطى جميلة أوصاف داوود. طلب مبلغ 100 دولار ليحضر هدية لآمر السجن، ووعدها بزيارة أخيها مع "الضيعة" كلها بعد 10 أيام، أي بحلول عيد الميلاد، وإحضاره معها إلى لبنان. جاء الميلاد ولم تحصل الزيارة. تحجّج الرجل بمرض زوجته وطلب من العائلة مبلغا من المال ليتمكن من علاجها ثم تعيين موعدا آخر للزيارة. رفضت العائلة. هي طبعًا لم تكن لتبخل بمال العالم كلّه لرؤية ولدها، لكنّها أدركت أن في الأمر ريبًا ما، وأن "السمسرة" دخلت على الخط. عُيّن موعد آخر، وتخلّف الرجل عن الحضور. كان جوابه للعائلة أن هناك شخصا سيحضره إلى لبنان على أن تستقبله العائلة في منطقة تُحدد لاحقا. رفضت العائلة مرّة أخرى وتخوّفت من كمينٍ ما.
لم تنتهِ القصة هنا. فشقيق داوود تعرّف بدوره على رجل سوري الجنسية، الذي أكّد له أن شقيقه في السجون السورية وهو بحالة صحية جيدة. وعد العائلة بإحضار داوود إلى طرابلس مقابل 5000 دولار. توجهت العائلة إلى هناك، وتأخر الموكب عن الموعد المنتظر. تغيّرت وجهة التسليم نحو "الأبراج" في عين الرمانة، ثم منزل شقيق داوود في المنطقة عينها. انتظرت العائلة في ذلك النهار قدوم داوود، ولا تزال تنتظره.
مرّت 30 سنة وداوود ومئات اللبنانيين مخفيون في السجون السورية. 30 سنة والتكاذب مستمرّ. 30 سنة وأمل الأهالي الوحيد في أن تفتح السجون بسبب الأحداث السورية ويتمكن اللبنانيون من الهرب..
هذا الموضوع هو الجزء السادس من ملف خاص فتحته "النشرة" تحت عنوان "مفقودون ومخطوفون: جرح لبنان النازف في سوريا منذ سنوات طويلة".
الأجزاء السابقة:
الجزء الأول -بين الإخفاء القسري والإعتقال: هل تضيع قضية اللبنانيين المفقودين في سوريا؟
الجزء الثاني -المعارضة السورية تعد بإطلاق سراح اللبنانيين في السجون السورية والأهالي يتحفظون (2)
الجزء الثالث -أحمد حسن بشاشة: لبنانيّ مخفيّ في سوريا بين أمل العودة ومرارة الواقع (3)
الجزء الرابع -بين الحياة والموت وبين لبنان وسوريا: أحمد علي أحمد مخفي منذ الـ1982 (4)
الجزء الخامس -حسن أحمد شعيب قاتَل سوريا عام 1976 ويسكن سجونها منذ 37 عاما! (5)