خلال الاسابيع التي سبقت دخول القوات السورية النظامية الى لبنان في نيسان 1976 واصل وزير الخارجية الاميركية انذاك هنري كيسنجر محاولاته للتوصل الى حل سياسي في لبنان ينسجم مع مصالح سوريا، ومع مقترحها للحل المقدم في 22 كانون الثاني ولكن في الوقت ذاته رفض دخولها العسكري الى لبنان، او في حال اصبح ذلك متعذراً ان يكون هذا الدخول محدوداً وان لا يتعدى ثلاثة اسابيع، وان يكون هدفه توجيه ضربة قوية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها اليساريين في لبنان بقيادة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط. وخلال اجتماع بتاريخ 31 آذار قال كيسنجر انه سيبلغ العاهل الاردني الملك حسين الذي كان يدعم سوريا بقوة انه اذا اخفقت كل الجهود السلمية ودخل السوريون الى لبنان على الرئيس الاسد "ان يعطي موعداً قاطعاً للانسحاب، على الاكثر ثلاثة اسابيع، واذا كان هو (الملك حسين) قادراً على محو منظمة التحرير خلال 9 ايام، فان ثلاثة اسابيع اكثر من كافية لذلك" (ضحك في الغرفة وفق المحضر). ولكن بعد تعثر القوات السورية في الصيف، وبعد تعرض واشنطن للانتقادات من جميع الاطراف، من المصريين الذين اتهموا واشنطن بالتواطؤ مع سوريا لدخول لبنان، والذين شكوا من عدم تدخل اسرائيل لمعاقبة السوريين، الى الاردنيين، الذي شكوا من ان واشنطن لم تدعم سوريا بما فيه الكفاية، اعرب كيسنجر في اجتماع في 7 آب 1976 عن مخاوفه من اخفاق سوريا، وقال لمساعديه "أود ان اوضح ان هزيمة سورية في لبنان هي بمثابة كارثة" ورأى ان انتصار منظمة التحرير في لبنان سيضع سوريا في كماشة بين طرفين راديكاليين: المنظمة والعراق، وتخوف من ان تؤدي هزيمة سوريا في لبنان "الى الاطاحة بالاسد". وعندما لم تتدخل اسرائيل في لبنان بعد ارسال سوريا قواتها النظامية الى لبنان، اعرب كيسنجر ومساعدوه عن استغرابهم لذلك وشكا من الاسرائيليين كالعادة لانهم لم يعلموه بخططهم. وخلال هذا الاجتماع قال السفير الاميركي في القاهرة هيرمان آيلتس لكيسنجر ان اتهامات انور السادات للسوريين بانهم قد اجتمعوا سراً بالاسرائيليين في جنيف قد ازعجت عبد الحليم خدام، ورد كيسنجر قائلاً بان الاتهامات "كانت صحيحة".
وعلى رغم النظرة السلبية العامة تجاه السياسيين اللبنانيين لدى كيسنجر ومساعديه، (مثل قول أثرتون : شمعون لا يزال يعيش في الماضي... شارل مالك في حال طلاق مع الواقع... او قول المبعوث الخاص الى لبنان دين براون للرئيس فورد: جنبلاط مجنون) كان كيسنجر ومساعدوه يتخوفون ويعارضون تقسيم لبنان ان كان على اساس طائفي او تقسيمه كمناطق سيطرة ونفوذ بين سوريا واسرائيل، وفي الوقت ذاته كانوا يعارضون ما يعتبرونه ميل قيادات مسيحية مثل الرئيس كميل شمعون الى تقسيم البلاد، واوصى كيسنجر دين براون ببذل كل الجهود لتصب "باتجاه لبنان موحد" وطلب من أثرتون ان يطلب من السفير الاميركي في سوريا ريتشارد مورفي ان يقول للسوريين "نريد ان يكون المسيحيون اقوياء بما فيه الكفاية للدفاع عن انفسهم، وربما يجب ان نقول للاسد اننا سنسمح بتزويدهم ببعض الاسلحة الاسرائيلية". ورأى كيسنجر ان الاسرائيليين يرون ان "افضل شيء بالنسبة لهم هو لبنان مقسّم"، وواصل الحديث عن مخاوفه من انه " اذا دخلت اسرائيل (الى لبنان) فاننا لن نستطيع اخراجها"، وانها قد تحتل اراضي لبنانية وصولاً الى نهر الليطاني.
وكان من الواضح من مواقف كيسنجر انه لم يكن يريد ان يحقق أي طرف، بمن فيهم سوريا أي انتصار ساحق في لبنان يعطيه القدرة على توحيد القوى الراديكالية بمساعدة السوفيات لان ذلك قد يعرقل مساعيه لتحقيق سلام شامل بين العرب واسرائيل. ورأى كيسنجر وسفيره في الاردن توماس بيكيرينغ خلال مناقشة بطء سوريا في السيطرة على الوضع وحسمه ان ذلك يعود "لاننا لم نعطها الضوء الاخضر". وتابع كيسنجر في اجتماع آب " تحليلي هو انه لو اعطينا سوريا الضوء الاخضر في آذار (عندما طلب عبد الحليم خدام رأي واشنطن في التدخل العسكري في لبنان) لكانوا هزموا منظمة التحرير الفلسطينية اولاً، وبعدها هزموا المسيحيين وانتهوا بفرض سيطرتهم الكاملة على لبنان الذي كان سيصبح راديكاليا بشكل تدريجي. وهذا كان سيعطي سوريا سيطرة كبيرة، ولذلك فاننا شجعنا او رضخنا لتقوية المسيحيين، والآن هم اقوى بما فيه الكفاية لمقاومة احتمال فرض الهيمنة السورية، الامر الذي يتطلب قوة سورية كبيرة، وسوريا لم تعد بعد الآن بهذه القوة".
وتبين محاضر الجلسات التي كان كيسنجر محورها ومعظمها بين مسؤولين في الخارجية ومجلس الامن القومي، وبعضها شارك فيها الرئيس جيرالد فورد ونائبه نيلسون روكيفلر ومدير السي آي ايه آنذاك جورج بوش، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد احتمال حدوث حرب اقليمية في حال ادى دخول سوريا الى لبنان الى التسبب باجتياح اسرائيلي لجنوب لبنان، وما يمكن ان تؤدي اليه حرب جديدة تنتصر فيها اسرائيل بسرعة الى احتمال تورط الاتحاد السوفياتي في الحرب لمنع سوريا من هزيمة جديدة مؤكدة. وفي اجتماع بتاريج 30 آذار لخص كيسنجر سياسات سوريا واسرائيل قبل ارسال القوات السورية الى لبنان بالشكل التالي "تاريخياً سوريا كانت دائماً تريد الهيمنة على لبنان. اسرائيل تعتقد انه في المدى البعيد ان سوريا في لبنان سوف تتعاون مع الراديكاليين وتدعم لاحقاً منظمة التحرير. وسوريا تشعر انهم اذا لم يتدخلوا فان منظمة التحرير سوف تسيطر على البلاد. انا اعتقد ان سوريا محقة في المدى القصير، واسرائيل محقة في المدى البعيد". وتابع "اعتقد ان افضل سياسة هي دعم سوريا سياسياً ومحاولة ابقائهم عسكرياً" خارج لبنان.
ويتبين من المحاضر ان كيسنجر كان ملماً الى حد كبير بتفاصيل وتعقيدات الاوضاع السياسية للبنان وتركيبته الاجتماعية والدينية، وخصوصاً عندما كان يشرح هذه التعقيدات اللبنانية للرئيس فورد الذي اظهر جهلاً كبيراً بالاوضاع اللبنانية حين سأل دين براون خلال احد الاجتماعات "هل المسيحيون عرب؟". وبعد دخول القوات السورية الى لبنان وخلال اجتماع عقد بتاريخ 22 نيسان قال كيسنجر الولايات المتحدة تتعرض للانتقادات من الجميع: "مصر تتهمنا بالتواطؤ مع سوريا. سوريا تتهمنا بالتواطؤ مع مصر. جنبلاط يتهمنا بالتواطؤ مع المسيحيين، والمسيحيون يتهموننا بالتواطؤ مع المسلمين". خلال اجتماع بتاريخ 22 حزيران اعرب كيسنجر عن احباطه لبطء الاسد وتردّده بتوجيه ضربة قاضية لمنظمة التحرير "لانه اذا لم يمح المنظمة او ان يضعفها بشكل جذري فانه لن يستطيع الانسحاب..." ورد عليه مورفي "لن ينسحب لديه الآن 19 الف جندي" وتابع مورفي ان غضب الاسد اصبح منصباً في هذه الفترة على كمال جنبلاط اكثر منه على ياسر عرفات. وكان من اللافت ان كيسنجر رأى ما اعتبره مأزق الاسد في لبنان وعدم حسمه للمعركة بسرعة مماثل لمأزق اميركا في فيتنام اي القيام "بعمل غير كامل". ورد عليه توماس بيكيرينغ قائلاً "يبدو انه متأثر بالقيود التي وضعناها عليه..." واجابه كيسنجر "لان الاسرائيليين غيروا اشاراتهم تجاهنا دون ان يخبرونا" وتدخل آثرتون قائلاً ان الاسرائيليين "حددوا الخط الاحمر بالنسبة لنا واعادوا رسمه عدة مرات، وكانوا قد لجأوا الى الحرب في هذا الوقت، لو التزموا بتحديدهم الاولي للخط الاحمر". وهنا قال كيسنجر "الواقع هو كما يعلم مورفي، فاننا لم نعرف لعنة الله أي شيء حول ما يفعله الاسد، والواقع ايضاً كما يعلم أثرتون لعنة الله اننا لم نعرف ابداً أي شيء تفعله اسرائيل".
ولاحظ الرئيس فورد خلال اجتماع في البيت الابيض بتاريخ 2 تموز ضم كيسنجر وسكوكروفت "الامر الابرز في لبنان، هو ان الاسرائيليين قد فعلوا الشيء الصحيح عندما وقفوا جانباً، ونتيجة لذلك فان السوريين يضعفون منظمة التحرير الآن" ورد كيسنجر وهذا دون أي ضغط منا. لقد وصلنا الى استنتاجات متوازية، ولم يكن هناك أي ضغط من جانبنا. السوريون يواصلون اضعاف منظمة التحرير، والسوريون عالقون الآن في لبنان، وهم لا يستطيعون الانسحاب دون ان يعطوا (لبنان) لمنظمة التحرير الامر الذي سيظهر اخفاق عمليتهم العسكرية". وفي محضر اجتماع عقد في 27 نيسان قال المبعوث دين براون ان "المسيحيين شعروا بالخيبة لان (الاسد) لم يتدخل مستخدماً فرقه العسكرية". وتحدث براون بازدراء واضح تجاه الطبقة السياسية اللبنانية ووصف افرادها بانهم امراء حرب سوف يشترون ويبيعون الاصوات عند انتخاب الرئيس الجديد، الذي اعرب عن امله بان يكون الياس سركيس "مع انني اقول علنا اننا لا نؤيد أي مرشح، لان ذلك سيكون بمثابة قبلة الموت".
وتكشف المحاضر ان انتقادات كيسنجر لاسرائيل كانت كثيرة ونابية، وللمرة الاولى انتقد خلال اجتماع بتاريخ 7 آب "اللوبي الاسرائيلي" في واشنطن ، لانه يعرقل صفقات الاسلحة لدول الخليج العربية واشار الى ان الاسرائيليين كانوا يقومون بأعمال اللوبي لخدمة مصالحهم "ولكنهم الآن يضغطون من اجل تغيير كل مسار سياستنا لتتناسب مع سياستهم بدلاً من ان تتناسب مع سياستنا".
وفي المقابل كانت بعض تعليقات كيسنجر عن العرب تعكس صوراً نمطية نافرة مثل حديثه عن القدرة الخارقة للعرب لكي "يخربطوا" الامور، او قوله "العرب مستحيلون" او اتهامه المصريين "بالنفاق". في مقارنته بين انور السادات وحافظ الاسد، قال كيسنجر ان الاسد "يقول لك دائماً، انا اولاً واخيراً عربي. السادات لا يقول ذلك ابداً". ولكن تعليقات كيسنجر النابية لم تكن محصورة بالاسرائيليين او بالعرب، بل بدت واضحة تجاه اعضاء الكونغرس كما كان يسخر من المسؤولين في وزارة الخارجية ومسؤولين آخرين، اما انتقاداته فكانت لاذعة وطريفة، ومنها قوله للرئيس فورد ان المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية "هم مجموعة من ابناء آوى A bunch of jackals . وقال ان الخارجية الفرنسية لا تزال مليئة بالديغوليين "الذين يمارسون سياسات ماكيافيلية رخيصة".