في العام 1969 ومن على مقاعد الدراسة ولدت فكرة الدولة العثمانية الجديدة، آنذاك في داخل الطالب في كلية الاقتصاد والاعمال رجب الطيب اردوغان، حين اسس نجم الدين أربكان حركة "الفكر الوطني" القائمة على فكرة عودة التاريخ العثماني، وأسلمة الدولة التركية التي كانت بحسب اربكان واردوغان دولة علمانية تناهض الاسلام واهله.
فأردوغان الذي تنقل من حزب الى اخر في الفترة السابقة، كان دائماً يبحث عن حزب يقوم على على فكرة الدولة الدينية حيث الخلافة. اقتنع كلياً بنجم الدين اربكان الى حد اعتبره "استاذه" الذي يطالب بافكاره ويحقق طموحاته. وبعد ان تعرف عليه شخصياً في نفس العام بدأ عمله السياسي معه، وبقي الى ان تم حل هذا الحزب بقرار قضائي من الدولة التركية بتهمة التآمر على العلمانية.
ولكن "الثنائي الاسلامي" عاد الى العمل السياسي هذه المرة في العام 1972 عبر حزب السلامة، وهنا بدأ نجم اردوغان يسطع شيئاً فشيئاً، الى أن انتخب كرئيسٍ لبلدية اسطنبول في العام 1994، واستطاع ان يكتسب تعاطف الناس وجمعهم من حوله عبر تقديم الخدمات، ما استثار شكوك الدولة التركية والجيش حول المشروع الذي يقوده اربكان ومن معه، فحُلّت حركته، وفي وقت لاحق القي القبض على اردوغان ومنع من العمل السياسي لخمسة أعوام، عندها قرر ومن داخل السجن ان يكرس نفسه سلطاناً جديداً لهذه الدولة بعد أن لاحظ تعاطف الناس معه، ما جعله يتمرد على استاذه اربكان فور خروجه من السجن، فانشق عنه واسس حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الاخوان المسلمين العالمية ولكن مع مراعاة "قوانين اتاتورك العلمانية".
ولا شك أن الرجل حقق اول خطوة من حلمه حين عيّن رئيساً للوزراء في العام 2000، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الخلافات والصراعات الداخلية غير العلنية بين فريق اردوغان من جهة، والقضاء والعسكر من جهة ثانية، حيث رأى فيهم مظاهر لدولة أتاتورك التي يرغب بالتخلص منها.
ومن هنا انطلقت الدولة "الاردوغانية" التي شهدت انتشاراً اشبه بانتشار السلطنة العثمانية في عهد سليمان باشا الاول، واستطاع اردوغان ان يكسب التعاطف الخارجي والداخلي بمجرد ان رفع صوته في وجه اسرائيل، فاستقبل استقبال الابطال والفاتح الجديد.
واراد لهذه الدولة الانتشار اكثر من خلال نشر الثقافة الجديدة التركية التي سوّق لها، على اعتبار انها دولة مسلمة وفي نفس الوقت متقدمة وتسعى للدخول في الاتحاد الاوروبي وتعادي اسرائيل.
ولاشك بأن أردوغان نجح في إقناع "جماعته" بأنه السلطان الجديد الذي يدافع عن حقوق الانسان في منطقة الشرق الاوسط، ولكنه عجز عن الإعتراف بحقوق الشعب الارمني.
وانطلاقا من ذلك كان تقارب اردوغان والغرب في مشروع الشرق الاوسط الجديد، على اعتبار ان تركيا ستكون نقطة الوصل بين المشرق والمغرب في السياسة والنفط والغاز، تحقيقاً لطموحاته للوصول بدولته الى أمجاد العهد العثماني.
الا ان هذا الانغماس "الاردوغاني" بالمشروع الغربي، كان يتنامى مع مشروعه الاسلامي وان كان في العلن، سرعان ما حوله من سليمان الاول الى عبد الحميد خان (آخر والي عثماني) مع انطلاق الثورات العربية التي ارتبط اسمه بها، وخصوصاً مع وصول الاخوان المسلمين في كل من مصر وتونس الى الحكم ومشاركته في الحملة على ليبيا ودعمه للمعارضة في سوريا.
ولكن سقوط المشروع الاخواني في المنطقة أفقد اردوغان صوابه، فبصمات تركيا ظاهرة في العديد من الاعمال التخريبية التي اسالت الدماء في دول الإنتفاضات العربية، من تسليح المتمردين في سوريا، الى الكشف عن شحنات الأسلحة التركية في اليمن، وحتى دعمه العلني للإرهاب المنظم لجماعة الاخوان في مصر، وصولا الى ارتباط تركيا بقضايا المخطوفين اللبنانيين والسوريين في سوريا، لا سيما مطراني حلب.
اما على الصعيد التركي الداخلي، فإن انشغال اردوغان بالمشاريع والصراعات الاقليمية وخسارته في اكثر من محور، جعلته ينسى الخلافات القديمة بين مشروع دولته المتناقض مع مشروع اتاتورك وتطلعات شعبه، فأراد الحزم في الداخل، متناسياً ما يعلنه عن ارادة الشعوب في سوريا ومصر.
غير ان هذا الرجل الذي جمع خلال فترة حكمه كل هذه التناقضات، جعلته يختزل العصر العثماني الذي امتدّ 600 عام خلال فترة قصيرة، حتى بات يقف اليوم امام منعطف خطير ومصيري لمستقبله السياسي الذي يبدو مهدداً أكثر من أي وقت مضى، مع اقتراب الانتخابات التركية.