من خطف المطرانين السوريين، انتقاهما بعناية، وآثر تغييب أكثر المطارنة قوة وديناميكية وحركة. إلا أن القضية لم تنته هنا؛ فمن لم يُخطفوا يقومون بعمل يوازي نشاط الأخيرين، ويكثفون من حركتهم داخلياً وخارجياً للإفراج عنهما والحفاظ على من بقي
لا يولي البطريرك بشارة الراعي الجائل بين روما ورومانيا والديمان، بحسب بعض المطلعين على الملف المسيحي السوري، اهتماماً يتعدّى رفع العتب في ما يخص قضية المطرانين المخطوفين قرب حلب، متروبوليت حلب والإسكندرون وتوابعهما للروم الأرثوذكس المطران بولس يازجي ومتروبوليت حلب لطائفة السريان الأرثوذكس المطران يوحنا إبراهيم. تتشابه تصريحات غبطته مع تصريحات رجال السياسة الذين يستدركون حديثهم عن هذا الملف بدعوة خجولة للإفراج عن المطرانين المخطوفين. يكاد ينقضي الشهر السادس على غيابهما، أو وفاتهما ربما، ولا ضغوط فعلية، دينية أو سياسية، لمعرفة مصيرهما. ثمة من يسأل هنا: «لو كان المخطوفان مارونيين، أما كان سارع الراعي لعقد قمة روحية في بكركي؟ وهل كان سيقبل بعدم الضغط جدياً للإفراج عنهما. وماذا عن الفاتيكان؟».
تاريخياً، لطالما تمكن المسيحيون الموارنة من مواجهة الأزمات وحماية أنفسهم بفضل الكنيسة القوية المتمرسة في السياسة والناسجة للعلاقات الاستراتيجية مع الغرب. فيما عجزت الكنائس الأخرى عن معالجة أزمتها الوجودية التي أدت في السنوات الأخيرة إلى تهجير آلاف العائلات الكلدانية والسريانية والأشورية من العراق. أما في سوريا، فتواجه أربعة مكونات مسيحية اليوم تهجيراً ممنهجاً يتنقل بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والسريانية والأرمنية. ويصدف أنّ لهذه الكنائس امتدادات لبنانية عبر مجموعة من الأساقفة السوريين الأقوياء الذين يرعون أبرشيات كبيرة شمالاً وبقاعاً وفي جبل لبنان، ويعملون لتفادي واقعة العراق المرّة.
يمكن هنا تقسيم العمل على شقين: الأول سياسي، والثاني اجتماعي. وفي هذا الصدد، يسافر راعي أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران عصام درويش بداية الشهر المقبل إلى قبرص حيث ينظم صلاة على مدى ثلاثة أيام، طلباً للسلام في سوريا، ستضم ممثلين من مختلف الدول الأوروبية والأميركية والعربية. وسبق لدرويش أن قام برفقة فريق عالمي بتنظيم صلوات في بلدان عدة من أجل السلام العالمي. وعندما يتعلق الأمر ببلده الأم، لا بدّ من صرخة مدوية تناجي بالصلاة إحلال السلام في سوريا بعيداً عن «الخيارات الأخرى غير المجدية» برأيه. فالصلاة التي أقامها بابا الفاتيكان سابقاً في هذا السياق، وفقاً لدرويش، «خلقت صدمة قوية حول العالم، أكان في أميركا وأوروبا أم في العالم العربي». واقتنعت الدول تالياً بأنه يمكن «وقف العنف في العالم عبر الاتحاد بالصلاة؛ فصلاتنا أقوى من أي مدافع وصواريخ». وهكذا كان.
ودرويش الذي يترأس عاصمة الكثلكة في الشرق، أي زحلة، لا يرى ضربة عسكرية في الأفق، ولا سيما بعدما انتصر السلام على «خطط الدول الكبرى العسكرية». أما القلق على مسيحيي سوريا، فمشابه للقلق العراقي، ولكن «ليكن معلوماً أننا في لبنان لسنا بمنأى عن مسيحيي سوريا، وحفاظنا على السوريين هو حفاظ على وجودنا في الدرجة الأولى». إلا أن ما يقلق حقاً هو «عجز السياسيين اللبنانيين المنتمين إلى قوى 8 و14 آذار عن تخطي ارتباطاتهم الشخصية لرؤية الصورة الأكبر في الشرق العربي». ودرويش على ثقة بقدرة الفريقين على التأثير، كل وفق علاقاته، في الأطراف السورية المتناحرة، ولا سيما قوى 14 آذار عبر ضغطها على المسلحين لتحييد المسيحي السوري الذي لم يحمل السلاح ضد أي جهة، وبقي مسالماً ومحباً لوطنه واستقراره ومصالحه منذ بداية الأزمة. ويوضح المطران الأرثوذكسي هنا أن «المسيحي لم يختر النظام السوري، بل أراد العيش بسلام وبحماية الدولة، فلم يجد إلا في النظام من يحميه ويحترم حريته الدينية. لذلك كان العطف على النظام». من جهة أخرى، عتب على قوى 8 آذار التي من المفترض أن «تقبل وتساعد النازحين إلى حين عودتهم في أقرب وقت إلى سوريا».
يتعجب المطران عند سؤاله عمّا إذا تعرض المسيحيون حقاً للتهجير والقتل في معلولا، معدداً ثلاثة كهنة في أبرشيته، أحدهم من «عائلة ثعلب تعرض صهره وابن خالته للذبح وشقيقه وابن شقيقته للخطف، وكاهن آخر أصيب شقيقه ويخضع للمعالجة، وغيرهم الكثير». أما معلوماته الأخيرة، فتشير إلى «انتشار الجيش السوري داخل البلدة، فيما تستمر المناوشات مع المسلحين من ناحية الجبال».
يقابل دور درويش السياسي الفاعل دولياً ومحلياً، دور اجتماعي يحاول قدر الإمكان إيواء ومساعدة النازحين الذين ارتفع عددهم من 15 عائلة بداية الأزمة إلى 800 عائلة في زحلة حالياً (غالبيتها من حمص) ونحو مئتي عائلة في القاع. لذلك، كان لا بدّ من إعداد فريق عمل من الموظفين والمتطوعين وتوفير مركز للتجمع في المطرانية، حيث «نعمل على توفير حاجات العائلات وفق الإمكان، أكان صحياً أم غذائياً أم على صعيد توفير المدارس والجامعات وإعطاء دروس إضافية للطلاب السوريين ليتمكنوا من اللحاق بالبرنامج الدراسي اللبناني». والمساعدات لا ترتكز على المطرانية فحسب، بل «نتلقى دعماً من أصدقاء في أميركا وروسيا وألمانيا وسوريا والجمعية الخيرية الكاثوليكية وغيرهم»، وقد «أسسنا مرشدية للنازحين معظمها من الكهنة لمساعدتهم على تخطي مصاعب التهجير النفسية».
على المقلب الآخر، ودائماً في زحلة، حراك أرثوذكسي يقوم به راعي أبرشية زحلة والبقاع للسريان الأرثوذكس المطران بولس سفر، حيث يعمل مع فريقه، بالتنسيق مع المؤسسات السريانية في أوروبا، على إيواء المهجرين وتأمين الأقساط المدرسية لأولادهم كاملة، إضافة إلى توفير فرص العمل. وبحسب سفر، كان معدل العائلات شهرياً نحو 50 عائلة، إلا أن العدد ارتفع هذا الشهر ليصل إلى 70 عائلة، معظمهم من الحسكة ورأس العين وحلب وحمص. والمساعدات لا تقتصر على زحلة بل تمتد إلى جبل لبنان عبر المطران جورج صليبا الذي كان يؤوي قسماً كبيراً من العائلات في دير السريان في عجلتون.
لا يخاف سفر على مستقبل سوريا، بل «كلي رجاء بتحسن الأمور مع مرور الوقت، وحراكنا السياسي ككنيسة وكأحزاب سريانية عبر العالم لا يتوقف، إن في أوروبا أو غيرها، حيث نحثهم على الضغط على الدول التي تموّل الجهات المسلحة، وخصوصاً مع اقترابنا من الحل السياسي».
عمل الأساقفة السوريين لا يرتكز فقط في زحلة والبقاع وجبل لبنان، بل يمتد وفقاً لامتدادهم في مختلف الأبرشيات، الأمر الذي أراح آخر مسيحيي سوريا وطمأنهم إلى اهتمام كنائسهم بوضعهم الاستثنائي. فشمالاً، يُعَدّ مسيحيو عكار جزءاً من مسيحيي وادي النصارى، وصولاً إلى طرطوس؛ لكون المطران باسيليوس منصور يرعى أبرشية عكار وتوابعها في سوريا للروم الأرثوذكس. إلا أن عمل منصور لا يشبه زملاءه الآخرين بسبب قلة عدد النازحين المسيحيين إلى عكار واقتصارهم على عائلتين فقط. أما الحراك السياسي «فيترأسه بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا اليازجي الذي عاد أخيراً من فرنسا وألمانيا». ويقول مطران عكار في هذا الصدد إن «المطرانية لا تفرق بين مسلم ومسيحي، ويمكن من يجيد الإحصاء التثبت بالأرقام من أنّ أعداد النازحين المسلمين تفوق أعداد المسيحيين، ويبدو أن شرّ الغرباء يتربص بكل أولاد المنطقة». لذلك «أناشد جميع الغرباء ومن يدعمهم من أميركيين وأوروبيين وعرب الخروج من بلدنا. فسوريا للسوريين فقط».
في موازاة الحديث الديني والصلوات والمساعدات الإنسانية، ثمة من يسأل اليوم عن غياب الدعم المسيحي الماروني الفعلي للطوائف الأخرى التي تتعرض للتهجير والتشتت. «فربما الموارنة غير مستهدفين هذه المرة، إلا أننا لطالما أحطنا الموارنة في السراء والضراء وقاتلنا دفاعاً عنهم، فماذا هم فاعلون ونحن نقتل اليوم؟». فيما على المقلب الآخر هناك من يتوجه إلى الغرب سائلاً عمّا «إذا كان لا يهتم لجميع المسيحيين، أو أنّ الأمر يقتصر على المسيحي الأرثوذكسي الذي لم ينسج تاريخياً علاقات جيدة معه، وخصوصاً أن لا كنائس عالمية لطوائفنا». ربما هو أيضاً «عدم قدرتنا على التمرس بالسلطة وضعفنا في التصدي للمواجهات، فلا قادة جيش لنا، ولا مديري مخابرات ولا حكام مصارف». وقد يتعلق الأمر «بديموغرافيتنا الكبيرة وجغرافيتنا الواسعة، والدليل عدم التعاطف معنا في قضية المطرانين المخطوفين وعدم جدية أي طرف في الكشف عن مصيرهما والعمل على عودتهما سالمين؟». ولكن ما لا لبس فيه أن «معظم ما يصيبنا هو بسبب لاامتدادنا الى الغرب وعدم تغطية الفاتيكان لنا».