في الصراعات والحروب الكبرى في العالم، تتخذ المواجهات ثلاثة أبعاد: البُعد المحلّي، والبُعد الإقليمي، والبُعد الدَولي. وفي الأزمة السوريّة، يأخذ البُعد الإقليمي أهمّية ضخمة، نتيجة الدور الإيراني الكبير في دعم النظام السوري بالمال والسلاح وحتى بالرجال، بشكل مباشر وغير مباشر، وكذلك نتيجة الدور السعودي الكبير في دعم بعض أطياف المعارضة السوريّة، تمويلاً وتسليحاً وبالرجال أيضاً. وتحوّلت المواجهة مع الوقت إلى شبه شخصيّة، بين كل من الجنرال الإيراني قاسم سليماني والأمير السعودي بندر بن سلطان بن عبد العزيز. فهل يمكن أن يُخفّف التقارب على المستوى الدولي، خاصة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، من أهمّية ودور القوى الإقليمية المؤثّرة، أم أنّ المواجهة ستستمرّ في المدى المنظور؟ وفي حال، تم ذلك، من سينتصر، الجنرال الإيراني أم الأمير السعودي؟
بداية لا بدّ من التوقّف عند أوجه الشبه بين كل من هاتين الشخصيّتين، على الرغم من موقعيهما المتقابلين. فكلاهما يشغل منصباً دقيقاً في بلاده، حيث أنّ الجنرال الإيراني قاسم سليماني، يشغل منذ العام 1998 منصب قائد فيلق "القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني. ويُعتبر سليماني، الذي يوصف بالجنرال الغامض، نتيجة إبتعاده عن الأضواء، من أهمّ صانعي السياسة الخارجية الإيرانيّة، ولو بأسلوب هادئ ومتكتّم، علماً أنّ المرشد الأعلى السيد علي خامنئي كان كلّفه بإدارة ملفّات كل من العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان. في المقابل، إنّ الأمير بندر هو الأمين العام لمجلس الأمن الوطني في المملكة العربيّة السعودية، ورئيس جهاز الإستخبارات العامة، ما يجعله مسؤولاً عن الأمن داخل المملكة، وكذلك مسؤولاً عن الملفّات الخارجية التي تقوم السعودية بدور مهم فيها، إن في لبنان أو سوريا أو غيرهما.
أكثر من ذلك، يملك كلّ من الأمير بندر والجنرال سليماني خبرة في التعامل مع القضايا الشائكة، وخبرة في التفاوض الدولي. فالدور الأمني للجنرال سليماني خوّله إدارة مفاوضات إيرانية-أميركية بشكل بعيد عن الأضواء حيناً وبالواسطة عبر فريق ثالث حيناً آخر، وذلك عشيّة وخلال الإجتياحين الأميركيّين لكل من أفغانستان والعراق. والمصلحة الأميركية-الإيرانية المشتركة جمعت الجنرال سليماني مع مسؤولين أميركيّين، ومن بينهم المسؤول في الإدارة الأميركية "ريان كروكر" (1) أكثر من مرّة، علماً أنّ طهران كانت آنذاك في موقع العدوّ لكل من حركة "طالبان" الأفغانيّة، وللرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. أمّا الأمير بندر فقد تخرّج من الكليّة الملكيّة الجويّة في "كرانويل" في بريطانيا، بصفة ضابط طيّار، وهو أمضى 22 سنة من حياته سفيراً للمملكة في واشنطن، وتحديداً بين العامين 1983 و2005، الأمر الذي سمح له بتكوين علاقات صداقة متينة مع كبار المسؤولين الرسميّين الأميركيّين، علماً أنّه لعب دوراً مركزياً في تطوير العلاقات الأميركية-السعودية الثنائية. وهو تولّى أيضاً إدارة أكثر من ملف شائك في الشرق الأوسط أخيراً.
إشارة إلى أنّ الجنرال سليماني كان أمّن انتقال المقاتلين العرب عبر الحدود الإيرانية-الأفغانية لمقاتلة نظام "طالبان" هناك خلال عامي 1996 و1997. وهو يوصف حالياً بأنّه الحاكم السرّي للعراق. وفي لبنان، لعب الجنرال سليماني دوراً كبيراً في تعاظم قوّة "حزب الله" العسكرية. أمّا الأمير بندر فهو لعب دوراً محورياً في العام 1991، لحشد الجيوش العربيّة إلى جانب الجيش الأميركي، لإخراج الجيش العراقي من الكويت، ثم في العام 2003، عندما أمّن تغطية سياسية عربيّة لقوات "الحلفاء" لإسقاط حكم الرئيس صدام حسين. وهو كان له أكثر من تدخّل في الملفّ اللبناني، خلال الحرب وبعدها، وساهم بقوّة حديثاً في إسقاط حكم "الإخوان المسلمين" في مصر.
والحرب الشرسة في سوريا حالياً تتغذّى بشكل خاص من إيران التي تدعم سوريا إقتصادياً ومالياً. وتدعمها عسكرياً أيضاً عبر إرسال شحنات الأسلحة والذخائر جوّاً عبر الأجواء العراقية. كما تدعمها بالرجال، عبر تأمين مجموعات مقاتلة من جهاتٍ موالية لإيران في كل من لبنان والعراق واليمن، وخصوصاً عبر إرسال خبراء من "فيلق القدس" لمهمّات الدعم اللوجستي للجيش السوري، والتدريب العسكري لمجنّدين سوريّين جُدد. وفي الضفّة الأخرى، يتولّى الأمير بندر تأمين توفير الدعم المطلوب لعدد من المجموعات السورية المعارضة، بالمال والسلاح، عبر طرق مختلفة. ونفوذه السياسي كبير، ورأيه مسموع، في أكثر من دولة عربيّة، إن لم يكن على مستوى النظام ككل، فعلى مستوى مجموعات سياسية محدّدة، كما هي الحال في لبنان وسوريا. وهو حاول أخيراً تليين الموقف الروسي من النظام السوري في لقاء ثنائي مع الرئيس فلاديمير بوتين، ثم حاول تسويق ضربة أميركية لسوريا، على خلفيّة "الهجمات الكيميائيّة" في الغوطة.
وحالياً، تفوّق الجنرال الإيراني على الأمير السعودي، بالنقاط، في ظلّ حنكة الدبلوماسية الإيرانية، ودعم روسيا الثابت للمحور المؤيّد لها في الشرق الأوسط، في مقابل تردّد وإرباك المحور المقابل، بدءاً بالقيادة الأميركية نزولاً. والحرب الإيرانية-السعودية ليست عسكرية-سياسية فحسب، بل إنّ جزءاً منها إعلامي. وفي هذا السياق، تعمل وسائل الإعلام الموالية لإيران منذ مدّة على نشر معلومات كثيفة تتناول خلافات ومشاكل تسود قيادة الحكم في السعودية، وتتحدّث عن قرب تبديل وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، وإستبعاد الأمير بندر عن منصبه.
في الخلاصة، يمكن القول إنّه حتى الساعة لا تراجع للدور الإقليمي السعودي-الإيراني في الأزمة السوريّة، في انتظار تبلور وجهة أيّ تقدّم محتمل على مستوى المفاوضات الدوليّة التي لا تزال في أولى جولاتها الطويلة. وبالتالي، حتماً المواجهة الأمنيّة في سوريا مستمرّة حتى إشعار آخر، بوجود الأمير بندر والجنرال سليماني أو من دونهما، كون المواجهة الحالية، هي بخلفيّات سياسية وعقائديّة ومذهبيّة وعرقيّة، تتجاوز بأشواط دور أيّ شخص، مهما علا شأنه، وأيّا تكن هويّته.
(1) عُيّن كروكر لاحقاً سفيراً للولايات المتحدة الأميركية لدى العراق، بين العامين 2007 و2009، وهو تحدّث شخصياً في أكثر من تصريح إعلامي عن علاقته بالجنرال سليماني.