30 آب 1983، قد يبدو يوما عاديا كغيره من الأيام التي تمر في حياتنا وتنقضي. لكن هذا اليوم بالنسبة لعائلة يوسف كان ولا يزال يوما أليماً في تاريخها وتاريخ لبنان طبعا. ففي هذا اليوم، فُقد الجندي في الجيش اللبناني ميلاد حبيب يوسف من مبنى "سندريلا" في الحمرا، حيث كان وعناصر من الجيش يساندون كتيبة أخرى في محاربة بعض المسلحين في المنطقة. يومها كان ميلاد، ابن جزين الجنوبية، يبلغ من العمر 18 عاما، وكان قد قرر الالتحاق بالجيش اللبناني لتأمين مستقبله ومستقبل أهله. لم يدرك آنذاك أنه سيكون أحد ضحايا المخابرات السورية.
قضى ميلاد 6 أشهر في خدمة وطنه، دون أن يعرف أنه قد يقضي سنينه المقبلة متنقلا بين السجون السورية، دون معرفة التهمة التي اعتُقل من أجلها. 30 سنة مرت ولا يزال الجندي اللبناني ميلاد في السجون السورية. لم تستطع الوالدة المتحسرة على اختفاء ابنها أن تؤَمّن لو زيارة واحدة لرؤيته والإطمئنان على حاله. جانيت يوسف تروي قصة أخيها بحرقة قلب فيها عتب على دولة أهملت أبناءها وأغدقتهم بوعود لم تستطع أن تحقق منها شيئا. "في 30 آب من ذلك العام، عادت كتيبة الجيش التي أرسلت لمساندة العناصر التي كانت متواجدة في مبنى "سندريلا" إلى ثكنتها في المشرفية على طريق المطار. عادت الكتيبة دون شقيقي"، تقول جانيت لـ"النشرة"، مشيرة إلى أن "قيادة الجيش سألت عن ميلاد في المستشفيات، ولم تجد له أثراً، وبعد مدة علمت أن المخابرات السورية قامت باعتقاله، وقد أكدت قيادة الجيش للعائلة بعد 15 يوما أن ميلاد لا يزال على قيد الحياة وقد أطلقت وساطات للإفراج عنه". أعطت قيادة الجيش وعدها ونكست به. في العام 1990، تروي جانيت، "خرج معتقل من السجون السورية وأكد لنا أن شقيقي لا يزال حيا. يومها كان ميلاد في سجن "الشيخ حسن"، وكانت جدران السجن مزينة بعبارة: "يوم أسود 30 آب 1983"، عبارة اعتاد ميلاد أن يكتبها في كل سجن وجد فيه".
وتتابع جانيت حكاية شقيقها المخفي: "لم يكن لدى والدتي سوى أمنية واحدة، أن ترى ابنها. ورحلت الوالدة ورحل الوالد، قبل أن يعرفا عن ابنهما شيئا". "أهلي بِقَبْرُن مش مرتاحين"، تقولها جانيت بحسرة، مشيرة إلى أن "السياسيين "مطنشين" لأن أولادهم ليسوا هم المعنيون بالأمر، "نحنا عم نموت كل يوم مئة موتة"، ويجب على الدولة أن تكون شفافة".
في عام 2008 كانت آخر معلومة عن ميلاد. ففي أيلول من ذلك العام إعتقل عمر يحيا في سجن تدمر، وهناك تعرّف بميلاد من خلف جدران السجن، حيث جرت العادة أن يدق المعتقلون على جدران السجن للتعرف على المساجين الجدد. ميلاد لم يقل شيئا سوى أنه لبناني وتم إعتقاله في 30 آب 1983، و"أهلي ما عم يسألوا عني". لم يعرف ميلاد أن والدته حاولت تأمين زيارة للسجن مرات عدة، حتى أنها زارت سوريا مرتين ولم يسمح لها برؤيته.
في عام 2008، سارعت جانيت لإرسال رسالة إلى الرؤساء الثلاثة تقول فيها أن الجندي ميلاد حبيب يوسف لا زال على قيد الحياة، بعد أن اضطرت العائلة للتوقيع على وثيقة وفاته قبل أعوام لأسباب قانونية، كونه في الجيش اللبناني.
وهنا تتساءل جانيت بحسرة: "لو كان هناك دولة، لبقي أخي في سوريا؟"، وتؤكد أن "لا ثقة لديها بكل السياسيين لأنهم يهتمون بالأموال ولا قيمة لديهم للمواطن". "أخي لم يتعاطَ في شؤون الأحزاب يوما، والتحق بالجيش اللبناني لتأمين مستقبله، وقد اعتقل وسجن في سوريا لأنه من الجنوب"، تقول جانيت، مضيفة بسخرية: "وزارة الدفاع والدولة تأخذ معلوماتها عن المعتقلين في السجون السورية من الأهالي".
لا تعوّل جانيت، كغيرها من أسر المخفيين قسرا في سوريا، على سقوط النظام هناك، فالأمر سيّان عندها: "أريد أخي حيّا أو ميتا"، بل تبدي في المقابل خوفا من أن "تفلت الأمور في السجون خلال الأحداث وتخرج عن السيطرة".
"زهرة شباب ميلاد ذهبت تحت الأرض"، هكذا تصف جانيت مأساوية الوضع، الذي حرمها أخاها مدة 30 سنة، فكم زهرة ذبلت، وكم عائلة تيتمت أو فقدت أحباءها، نتيجة "دولة جبانة خاضعة"؟!
هذا الموضوع هو الجزء التاسع من ملف خاص فتحته "النشرة" تحت عنوان "مفقودون ومخطوفون: جرح لبنان النازف في سوريا منذ سنوات طويلة".
الأجزاء السابقة:
الجزء الأول - بين الإخفاء القسري والإعتقال: هل تضيع قضية اللبنانيين المفقودين في سوريا؟
الجزء الثاني - المعارضة السورية تعد بإطلاق سراح اللبنانيين في السجون السورية والأهالي يتحفظون (2)
الجزء الثالث - أحمد حسن بشاشة: لبنانيّ مخفيّ في سوريا بين أمل العودة ومرارة الواقع (3)
الجزء الرابع - بين الحياة والموت وبين لبنان وسوريا: أحمد علي أحمد مخفي منذ الـ1982 (4)
الجزء الخامس - حسن أحمد شعيب قاتَل سوريا عام 1976 ويسكن سجونها منذ 37 عاما! (5)
الجزء السادس - داوود يوسف لحود.. مفقود التكاذب ومصالح الأحزاب مع سوريا (6)
الجزء السابع - عبدالله اسماعيل حمودة غيّبه أحد الأحزاب اللبنانية وأخفته السلطات السورية (7)
الجزء الثامن - عماد ابراهيم عبدالله: معتقل سابق في اسرائيل ومتهم بالعمالة لها من قبل سوريا؟! (8)
الجزء التاسع - قزحيا فريد شهوان: "مجرم كتائبي" مخفي في السجون السورية (9)