غالباً ما يتّهم اللبنانيّون جهات خارجية بالتآمر على لبنان، وعلى وحدة الصف فيه، لكن وفي كثير من المحطّات المؤلمة يتبيّن أنّ العديد من اللبنانيّين متورّطون بتنفيذ الأعمال الإرهابية التي تستهدف لبنانيّين آخرين، ولو أنّ التعليمات تكون خارجية في بعض المرّات. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، النتائج الأوّلية التي أظهرتها التحقيقات الخاصة بالتفجيرات التي وقعت أخيراً في كل من الضاحية الجنوبية لبيروت وطرابلس، بغضّ النظر عن حملات التشكيك بالأجهزة الأمنيّة المعنيّة، من قبل الفرقاء اللبنانيّين المنقسمين سياسياً.
فبحسب نتائج التحقيقات الأوّلية المنقولة إعلامياً عن مصادر الأمن العام، إنّ مجموعة إسلامية متشدّدة تضم لبنانيّين وأشخاصاً من جنسيّات عربيّة أخرى، مرتبطة بالمعارضة السورية، وتنسّق معها على مستوى التخطيط والتنفيذ للعمليّات الأمنيّة، هي وراء الإنفجار الدموي في الرويس الذي أوقع 27 قتيلاً ونحو 280 جريحاً في 15 آب الماضي. وهي تولّت شراء السيارة، وتغيير معالمها في أحد مرائب عرسال، وتفخيخها، قبل ركنها في الضاحية. وأصابع الإتهام تتجه خصوصاً إلى عمر الأطرش الذي قيل إنّه المسؤول عن التخطيط والتحضير لتفجيرات الضاحية، إضافة إلى التورّط بعمليّات أمنيّة ضد الجيش اللبناني في البقاع، وبعمليات قتل وقتل مضاد ضد آل جعفر، قبل أن يتمّ اغتياله أخيراً.
وعلى خط مواز، وبحسب نتائج التحقيقات الأوّلية المنقولة إعلامياً عن مصادر فرع المعلومات، إنّ مجموعة لبنانية من جبل محسن، وينتمي أعضاؤها إلى الحزب العربي الديمقراطي الذي يسيطر أمنيّاً وسياسياً على تلك المنطقة، ويرأسها حيان حيدر، هي وراء إعداد تفجيري طربلس، اللذين وقعا في 23 آب أمام كل من مسجد السلام ومسجد التقوى، واللذين أوقعا 51 قتيلاً وأكثر من 350 جريحاً. وبحسب "السيناريو" المنقول عن مصادر التحقيق إنّ أجهزة الإستخبارات السورية هي التي سلّمت السيارتين المفخّختين إلى المنفّذين اللبنانيّين، عبر منطقة القصير الحدودية، قل أن يتم نقلهما إلى الهرمل مع تخطّي حواجز "حزب الله" في المنطقة (في حينه)، ثم إلى القبيات، لتحط أخيراً في جبل محسن، وتُنقل بعد يومين إلى موقعي التفجير في قلب طرابلس.
وممّا سبق، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أوّلاً: إنّ الأجهزة الأمنيّة اللبنانية تعطي انطباعاً بأنّها تعمل بشكل منفصل تماماً، بحيث أنّ تركيز كل جهاز منها يصبّ على محور معيّن وعلى جهات سياسيّة محدّدة، الأمر الذي يزيد من الإتهامات الشعبيّة ببطلان التحقيقات التي تجريها، أو أقلّه بتسييسها. وهذا الأمر لا يصبّ إطلاقاً في صالح الحقيقة، ويضعف مصداقية أجهزة الدولة ككل، وثقة الناس بها.
ثانياً: إذا أقرّينا بصحّة التحقيقات التي يجريها كل جهاز من هذه الأجهزة، وبدقّة النتائج الأوّلية التي أعلن عنها، يتّضح أكثر فأكثر مدى تورّط خلايا لبنانية تعمل داخل الأراضي اللبنانية في الكثير من العمليّات الإرهابية التي تهدّد السلم الأهلي والأمن القومي اللبناني، ولو بالتعاون مع جهات أجنبية وخارجية، وبمساعدة من خلايا عربيّة أخرى ناشطة في لبنان.
ثالثاً: إنّ نتائج التحقيقات الأوّلية في التفجيرات التي طالت أماكن مختلفة أخيراً أظهرت عمق الإنقسام المذهبي الداخلي، وعدم تردّد جهات عدّة سهلة الإنقياد من الخارج، في استخدام أقصى عمليّات الغدر والإرهاب، أي التفجير ضد المدنيّين، وصولاً إلى تحقيق مآرب هذه الجهات الخارجية، بغض النظر عمّا إذا كانت أجهزة الإستخبارات السورية أو المعارضة السورية هي وراء الأوامر العليا بتنفيذ التفجيرات المتبادلة.
رابعاً: إنّ مقتل المتهم عمر الأطرش بصاروخ موجّه أو بعبوة ناسفة لا فرق، في منطقة نائية من جرود عرسال، حيث لا وجود للأجهزة اللبنانية الرسمية، ولا قدرة لها على الوصول إلى هناك بسبب الإنتشار المسلّح غير الشرعي، يُظهر حجم قدرات بعض الجهات المتواجدة على الأرض اللبنانية، لا سيّما الحزبيّة المنظّمة منها، لجهة كل من نوعيّة الأسلحة والعبوات التي بحوزتها، وقدرتها على الرصد والإستخبار، ودقّة تنفيذها للمهمّات الأمنيّة التي تتلقّى أوامر بشأنها.
خامساً: إنّ وصول المواجهة بين النظام السوري ومعارضيه، إن بشكل مباشر في الداخل السوري، أو بالواسطة عبر جهات لبنانيّة مؤيّدة لهذا الجانب أو ذاك، إلى مرحلة عمليّات التفجير الإرهابية ضد المدنيّين، يُثبت حجم الحقد المتبادل الذي بلغ سقوفاً عالية جداً. وهذا الأمر يُنذر بانفلات الأمور كلّياً، بمجرّد توفّر قرار خارجي بذلك. وإذا كان نجاح الأجهزة الأمنيّة اللبنانية الجزئي في الأسابيع القليلة الماضية قد أفشل مخطّطات بعض الخلايا، وأنقذ لبنان من مزيد من المآسي الدمويّة، فإنّ الأجواء العامة المحيطة التي تؤكّد استمرار عمل خلايا إرهابيّة أخرى، في ظلّ استمرار المواجهة الإقليمية على مصراعيها، لا يدفعنا إلا إلى مزيد من القلق إزاء ما يحمله المستقبل لنا جميعاً في لبنان.