هو التحايل، مهنة احترفها بعض اللبنانيين، مستفيدين من طاعون الفساد الذي أصاب معظم ما يتعلق بالشأن العام. فلكل قانون أو مرسوم أو حتى قرار وزاري وسائل لخرقه، تصل إلى حد الوقاحة واللامبالاة، وما قصّة بلدة حلتا إلا خير دليل على ذلك.
فحلتا البترونية، بلدة هادئة ومعروفة بمساحاتها الخضراء وبقربها من مجرى نهر الجوز، والتي باتت ذات أهمية وطنية لما تحويه من تراث لبناني: فهي البلدة التي ولد فيها وترعرع بطريرك الإستقلال، البطريرك الماروني الراحل الياس الحويك، وفيها ما زال منزله مُشيَّداً بعقده القديم ليذكر بصفحة من صفحات تاريخ لبنان المعاصر. إلا أن مشكلة هذه البلدة، بدأت منذ بضعة سنوات، عندما قام أحد المستثمرين بإنشاء مقلع وكساّرة حرفية على عقار اشتراه.
أصوات إلتهام الجبل أو شاحنة قديمة؟
في هذا الإطار يشرح بعض أعضاء حركة الإنماء الإنساني المتابعين لهذا الملف، في اجتماع لنا معهم، أن هذا المستثمر، وبعد أن حصل على ترخيص لمقلعه، استبدل كسّارته الحرفية (موزاييك) بكسارتي روتاري ضخمتين. ولأن الترخيص يمنعه من اللجوء إلى التفجير، تقدم برخصة بناء وعلى أساسها بدأ بالقيام بالتفجيرات مما زعزع أساسات منازل العقد القديمة التي لا تبعد إلا مسافات قليلة عن المقلع.
وبسبب المخالفات، أوقفت الأعمال عام 2012، فأظهر رخصة بناء حصل عليها، إلا أن كشف وزارة البيئة أظهر مخالفة لرخصة البناء، وأكد أنه جرى تكديس ستوك من البحص بكميات كبيرة، متمنياً "إيقاف الأعمال القائمة إضافة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة".
ويشرح رئيس حركة الإنماء الإنساني لاوون الحويك أنه "تم تحرير عدة محاضر ضبط مخالفة بحق المستثمر وختم المقلع بالشمع الأحمر مراراً إلا أنه وفي كل مرّة كانت الأعمال تعود بشكل عادي والكسارات تستمر بقضم الجبل"، شارحاً أن "المخالفات كانت تجري في الليل أيضاً رغم قيام السلطات الإدارية بوضع إشارات بالشمع الأحمر".
وفي هذا الإطار، يكشف لنا أحد أبناء البلدة أنه وخلال الليل، "سمع أصواتا قوية، فتوجهت مجموعة من شباب البلدة إلى مكان المقلع، وظلوا على بعد أمتار قليلة، فوجدوا الأعمال قائمة على قدم وساق. اتصلوا بالمراجع الإدارية يسألونهم عما يجري، واستمهلوهم لفترة، وكان الجواب أنه أرسلت دورية تبين لها أن هناك محاولة إدارة شاحنة قديمة وليس هناك من أعمال. أما ابن البلدة، فقال له: ها إنني أمام المقلع في هذه الأثناء وأرى ما يجري... شكراً على أي حال على كل الجهود".
الأعمال كانت تستمر بغض النظر عن كل الإجراءات الإدارية، وذلك من خلال اللجوء في بعض الأحيان إلى التحايل. فلكي يكمل أعماله وتفجيراته، قام المستثمر بطلب مهلة إدارية لتسوية مجبل إسمنت وإسفلت في العقار عينه، متقدماً إلى وزارة الصناعة بأوراق تبين في وقت لاحق أنها غير دقيقة والمؤسسة غير قائمة، فأعطي في البداية مهلة إدارية لمدة 4 أشهر، فراجعت الجمعيات المحلية المعنيين مؤكدة عدم وجود أي مجبل للإسمنت وللإسفلت أساساً في المنطقة، وبعد الكشف، سحبت منه هذه المهلة الإدارية. إذاً، لجأ هذا المستثمر إلى مستندات خاطئة وإلى الغش لتسمح له وزارة الصناعة "بمهلة إدارية لتسوية مجبل للإسمنت والإسفلت"، علماً بأن لا وجود له أساساً. ويرجح الحويك أن يكون المستثمر قد طلب هذه المهلة القانونية لكي ينشئ معمل الإسمنت فيكون بين يديه ترخيص المهلة الإدارية".
مخالف للقانون!
على أي حال، فإن وجود هذا المقلع بحد ذاته هو مخالف للقانون لأن الترخيص لا يراعي المسافة التي يجدر بها أن تفصله عن المساكن والبيوت من جهة وعن مجرى نهر الجوز الذي هو من المناطق الطبيعية الخاضعة لوزارة البيئة من جهة أخرى. فبحسب القرار الوزاري الصادر عام 1998 والذي يصنف موقع وادي مجرى نهر الجوز كموقع طبيعي خاضع لحماية وزارة البيئة، يجدر أن تبعد المقالع والكسارات والمصانع والمرامل عن هذا الموقع مسافة 1500 متر، ولكن هذا غير مطبق في حلتا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن المقلع يخالف حتى الشروط الأساسية التي على أساسها أعطي ترخيص كسّارة الموزاييك. فمن بين الشروط البيئية التي يجدر به احترامها: حفظ حقوق الغير وعدم إلحاق أي ضرر في الجوار، وهذا الأمر لا يحدث لأنه، وبسبب الإنفجارات، فإن المنازل المحيطة معرّضة للتصدع. وبالإضافة إلى ذلك، فبحسب الشروط أيضاً، يحظر التعدي على الينابيع والآبار العمومية وعلى مجاري المياه الظاهرة والمياه الجوفية ضمن الموقع أو في المناطق المجاورة له، كما يجب إقامة سور صخري لمنع تساقط الصخور والأتربة والرمال في مجرى المياه الشتوية. ويكفي النظر بأم العين من الجهة المقابلة للمقلع لرؤية هذه هذه المخالفة. ونضيف إلى ما ذكرنا، ضرورة تجهيز المعدات المنتجة للغبار بأنظمة لكبتها التي تولده، إلا أن الأهالي فهم يتذمرون لكثافة الغبار المتصاعد، حتى أن بعضهم أرانا صوراً إلتقطها للغبار المتصاعد.
ما هذه المخالفات إلا نموذجاً عما يجري في هذه البلدة، إلا أن الأسوأ من كل هذا، بحسب الحويك، هو العقاب الذي يعاقب به اليوم صاحب المقلع لكل المخالفات التي قام بها، ويقضي بـ: "التجليل". فعليه اليوم أن يعدّ جلولاً، ولكنه أصبح في نهاية حدوده العقارية، مما يجعل ذلك مستحيلاً إلا إذا اشترى العقار الذي يقع قرب عقاره. وفي هذا السياق، يعبر الحويك عن تخوفه من أن يتحول التجليل إلى حجة لكي يقضم تلّة أخرى.
من مصيف ريفي إلى منطقة صناعية فئة ثانية؟
إلى جانب الكارثة البيئية التي تنتج عن هذا المقلع، فإن بلدة حلتا تواجه أيضاً مخططاً آخر يهدف إلى جعلها منطقة صناعية من الدرجة الثانية. وفي هذا الإطار، يوضح الحويك أن "محاولات جعل بلدتنا صناعية فئة ثانية تجاوزت الـ4 مرات خلال سنة واحدة ولكن أبطال المجلس الأعلى للتنظيم المدني تصدوا لها إلى جانب أبناء البلدة".
ويرى الحويك بأن ما يجري اليوم هو "مسلسل مؤسف"، مشيراً إلى أن "أعمال المقلع مستمرة بحجة توسيع الأساسات، أي بناء على رخصة البناء التي حصل عليها، علماً أنه منذ ثلاث سنوات لم يكن قد قام ببناء أي شيء ولا يريد بناء أي شيء، فالحجج دائماً موجودة لكي يأكل الجبل ويكمل أعمال مقلعه".
وبعد جولة لنا في التلال المطلة على المقلع، وبعد مرورنا في طرقات وعرة جداً وصولاً إليه وسط جو من التشنج لما يصل من تهديدات للذين يقفون ضده، لاحظنا أن كسارات الروتاري ما زالت موجودة حتى اليوم، وأن الشاحنات مستمرة بعملها، ولكن دون تفجير. فالتفجيرات توقفت منذ حوالي الشهر ونصف، وفق ما يؤكد الحويك، مشيراً إلى أن ذلك قد تم بعد اجتماع عقد مع وزير الداخلية مروان شربل الذي سرعان ما أصدر تعليمات مشددة بتطبيق القانون.
هذا النموذج عما يحدث في بلدة حلتا منذ 3 أعوام دفع بتجمع من الأهالي، وتحت اسم "لجنة متابعة الوعي الشعبي" إلى إصدار "دليل الشطارة في الكسارة"، وهو دليل يحدد كيف يقوم البعض بالتحايل على كل القوانين والقرارات لكي يستفيد بأكبر حجم ممكن، وقوامه 16 مرحلة.
ففي الواقع، ليس المقلع الذي تحدثنا وحده المخالف في البلدة وفقاً لمراحل الدليل، بل هناك مقلعان آخران في حلتا، أحدهما بين المنازل والآخر مطلّ على مجرى نهر الجوز، وقد اعتمدا المنهاج نفسه.
وأقصى ما يتمناه اليوم الأهالي اليوم هو أن يتم تطبيق قوانيننا "الجميلة"، وأن يتم حماية مواقعنا الطبيعية حقاً. فلو أن ذلك يحصل، لما كان وطننا اليوم يعاني ما يعانيه من تشويه لا يمكن الرجوع عنه...