على الرغم من أنّ بداية ملفّ خطف الزوّار اللبنانيّين تعود إلى 22 أيّار 2012، أيّ إلى شهرين ونصف الشهر من خطف الزوّار الإيرانيّين (1)، فإنّ نهاية هذا الملف الإنساني الظالم بحقّ المخطوفين وأهاليهم، لم تحلّ إلا في 19 تشرين الأوّل 2013، أيّ بعد سنة وخمسة أشهر على تنفيذ عمليّة الخطف الإرهابية، وبعد تسعة أشهر على إطلاق المخطوفين الإيرانيّين. فلماذا دفع المخطوفون اللبنانيّون ضريبة أكبر؟ وما هي خلفيّات وكواليس صفقة الإفراج عنهم؟ وماذا يمكن تسجيله من إنطباعات في نهاية هذا الملف؟
بالنسبة إلى ثمن الحريّة الباهظ الذي دفعه المخطوفون اللبنانيّون، فمردّه إلى عدم تعاطي السلطات اللبنانيّة مع ملف الخطف بالواقعية والبرغماتيّة التي اعتمدتها إيران. فمن المعروف أنّ هدف أيّ عمليّة خطف يتمثّل بالضغط على الجهة المعنيّة بالخاطفين، للحصول على مكاسب في المقابل. والرد على أيّ عمليّة خطف، يكون إمّا بمهاجمة الخاطفين مهما كلّف الأمر ومهما كانت النتيجة، أو بالإستجابة لمطالبهم، وإلا فإنّ الثمن هو حجز حرّية المخطوفين لفترة طويلة. وبما أنّه لم يكن من مجال لمحاولة تحرير المخطوفين اللبنانيّين بالقوة، كان لا بد للخضوع لمطالب الخاطفين، أقلّه جزئياً، كما فعلت إيران التي إستفادت من ثقل نفوذها لدى النظام السوري، لحمله على التنازل للخاطفين. يُذكر أنّه بعد سلسلة من التدخّلات والوساطات الإقليميّة، تراجع الخاطفون من المطالبة بإطلاق مئات المعارضين المعتقلين في السجون السورية، إلى مطلب الإفراج عن السجينات السوريات، ورفعوا لائحة إسميّة تضم 371 إسماً. لكن لا السلطات اللبنانية سعت لتنفيذ هذا المطلب بالجدّية اللازمة في البداية، ولا السلطات السورية أبدت أيّ ليونة في إطلاق كل هذا العدد من المعتقلات.
لكن في الأسابيع القليلة الماضية، تبدّلت الصورة، وحصل أكثر من تغيير أفضى إلى صفقة الإطلاق. وفي هذا السياق، يمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: بذل مدير عام الأمن العام، اللواء عبّاس إبراهيم، جهوداً مضنيّة مع كل من المسؤولين الأتراك والسوريّين، عارضاً أكثر من "سيناريو" عملاني للحلّ، وليس مجرّد طلب وساطات، كما حصل في السابق.
ثانياً: تعاطت تركيا مع ملف "مخطوفي أعزاز" بجدّية أكبر من السابق، ومارست ضغوطاً فعليّة على الجهات التي تمون على الخاطفين، نتيجة رغبتها بإطلاق مخطوفيها في لبنان.
ثالثاً: وافق الخاطفون على خفض سقف مطالبهم، وقبلوا بالإفراج عن نحو ثلث عدد السجينات السوريات، بعد أن كان مطلبهم أكبر من ذلك في السابق، وذلك إستجابة للضغوط التركية والقطريّة والفلسطينيّة المشتركة.
رابعاً: تولّت قطر دفع مبالغ مالية كبيرة للخاطفين، بغض النظر عن التضارب في الأرقام المعلنة والخاصة بحجم الفدية، والتي أجمعت أكثر من جهة على أنّها بقيمة عشرات ملايين الدولارات.
خامساً (والأهمّ): وافقت السلطات السورية على الإفراج عن عشرات المعتقلات السوريات في سجونها، واللواتي تصنّفهنّ في خانة "المجرمات" (قُدّر العدد بين 120 و150). واللافت أنّ موافقتها على تلبية جزء من مطالب الخاطفين، جاءت من دون أيّ مقابل، وعربون وفاء و"ردّ جميل" لموقف "حزب الله" المساند ميدانياً لها.
وبالنسبة إلى ما حُكي عن تأخير "لوجستي" في عمليّة الإفراج يوم السبت، فهو لم يكن كذلك، بل تنفيذاً دقيقاً لصفقة الإطلاق والتبادل الثلاثية الجهات. فالسلطات التركية كانت اشترطت أن لا تعطي الإذن لإقلاع الطائرة القطرية التي أقلّت المحرّرين اللبنانيّين من تركيا إلى مطار بيروت، إلا لحظة تبلّغها من سفيرها في لبنان إينان أوزلديز، أنّ الطيّارين التركييّن المخطوفين أصبحا بعهدته. وقبل ذلك، لم يتم تسليم المخطوفين اللبنانيين إلى اللواء ابراهيم، إلا بعد التأكّد من وصول السجينات السوريات المفرج عنهن إلى الأراضي التركيّة. من جهة أخرى، وفي ما خصّ فشل إطلاق المطرانين المخطوفين بولس يازجي ويوحنا إبراهيم، فلا علاقة له بكواليس الدقائق والساعات الأخيرة لصفقة التبادل، حيث وصلت محاولة إدراج المطرانين ضمن الصفقة الشاملة، إلى طريق مسدود قبل أيّام عدّة، نتيجة استقلال قيادة الجهة الخاطفة للمطرانين عن الجهة الخاطفة للزوّار اللبنانيّين. وبالتالي، على الرغم من نجاح الوساطتين القطرية والفلسطينيّة بالوصول إلى الجهة الخاطفة للمطرانين، إلا أنّ رفع هذه الأخيرة مطالب مستقلّة عن مطالب خاطفي اللبنانيّين أسفر عن العدول عن فكرة توحيد صفقة الإطلاق، منعاً لتعثّرها مرّة جديدة. والخوف من التعثّر في المرحلة الأخيرة، أسفر أيضاً عن عدول تركيا عن التمسّك بإطلاق معتقلين أتراك في السجون السورية متّهمين بتوفير الدعم اللوجستي لبعض أطياف المعارضة السورية.
وبالنسبة إلى الإنطباعات التي يمكن تسجيلها في نهاية ملف "مخطوفي أعزاز" الإنساني:
أوّلاً: إنّ صفقة التبادل لم تتمّ إلا بعد أن وافقت السلطات السورية على الإستجابة جزئياً لمطالب الخاطفين، وبعد أن دفعت قطر مبلغاً ضخماً من المال.
ثانياً: إنّ عمليّة خطف الطيّارين التركيّين في لبنان، والتي أضرّت بسمعة لبنان وبموقعه السياحي، إنعكست إيجاباً على ملف المخطوفين، نتيجة زيادة حجم التدخّلات الإقليميّة وجدّيتها للتوصّل إلى صفقة تبادل.
ثالثاً: إنّ تصريحات ومواقف "مخطوفي أعزاز" تبدّلت بشكل كامل، وهويّتهم السياسية أُعلنت بشكل واضح بمجرّد أن وطأت أقدامهم أرض لبنان، ما يؤكّد مرّة جديدة بُطلان أيّ تصريح أو موقف، في ظلّ حال الأسر أو الخطف أو الإعتقال، لأيّ جهة كانت.
رابعاً: الأكيد أنّ هذا الملف الإنساني وصل إلى نهاية سعيدة، من حسن حظ المحرّرين اللبنانيّين وأهاليهم. لكن الظروف التي أوصلت إليه ما تزال مفتوحة على مصراعيها، ما يعني أنّ التهديد بتكرار "سيناريو" الخطف وحجز الحريّة لا يزال قائماً، على أمل أن لا يتكرّر خطأ سوء التقدير السابق بالنسبة إلى إنطباع الأمان الزائف في كثير من المناطق السوريّة.
(1) في الرابع من آب من العام 2012، تعرّضت حافلة لزوّار إيرانيّين للخطف أثناء مرورها في قرى ريف دمشق. وفي التاسع من كانون الثاني 2013، أيّ بعد نحو خمسة أشهر، نجحت طهران في تأمين إطلاق المختطفين الثمانية والأربعين، في صفقة تبادل مع الخاطفين، قضت بإطلاق عدد من المعارضين المسجونين لدى السلطات السورية التي نفت في حينه عقد أيّ صفقة مع "الإرهابيّين".