في زحمة الاتصالات التي كان يجريها رئيس مجلس النواب نبيه بري ومتابعته للوضع في طرابلس، تحضر الى مجلسه في عين التينة شخصية مستقلة من المدينة، ويسألها على الفور: "كيف الوضع في المدينة"، فرد الرجل وفي قلبه غصة "المسلحون وصلتهم مبالغ مالية كبيرة وحصّنوا عتادهم العسكري، هذا ما يحصل في التبانة والأمر نفسه في جبل محسن. كل شيء اصبح في ايدي هؤلاء الذين تديرهم جهات خارجية".
هذه الواقعة يقاطع بري تفاصيلها مع معلومات تصله من وجوه ناشطة في المجتمع المدني، من محامين وسواهم في طرابلس.
يثبت المشهد مرة اخرى ان طرابلس تحولت صندوق بريد عسكرياً، ينفذ اصحابه ما يتلقونه من رسائل سياسية، حتى باتت احياء المدينة، وخصوصاً في باب التبانة المنكوبة، مربعات نفوذ لقادة المحاور ورجالهم. اما جبل محسن فمعروف من يمسك به. ولم يستطع اهله ايصال جريح الى مستشفى في المدينة خوفاً عليه. ولم يبق امامهم سوى خط طريق واحد يؤدي الى زغرتا.
رغم موجة الفلتان الحاصلة في عاصمة الشمال، لا يتوقع بري ان تمتد هذه الشرارة الى مناطق لبنانية اخرى بسبب اجماع مختلف القادة السياسيين على ان لا جدوى لأي طرف من سلوك الحرب واستعادة الذكريات الموجعة التي عصفت بلبنان في اعوام سوداء خلت، لا تزال حلقاتها ماثلة وحيّة في ذاكرة اللبنانيين.
ولا يربط بين حوادث طرابلس والمعلومات المتداولة عند المواطنين قبل المسؤولين ان اشعال المدينة في الايام الاخيرة، جاء قبل البدء بمعركة القلمون التي يحضر لها الجيش السوري لطرد نحو 5 آلاف مسلح من المعارضة بشتى انواعها من "جيش حر" واسلاميين من سوريا وخارجها، وان الجيش النظامي طبق حصاراً على هذه المنطقة التي لا تزال حدودها مشرعة مع الجانب اللبناني، ولن يقدم الجيش السوري على تنفيذ اي عملية عسكرية في القلمون قبل معرفة مصير مؤتمر "جنيف – 2" لأن اي خطوة ناقصة من شأنها أن تطيح المؤتمر الذي لم يحدَّد له موعد رسمي بعد. ولم يطمئن بري حتى الآن الى هذه النقطة لأن وزيري خارجية اميركا جون كيري وروسيا سيرغي لافروف لم يحسما موعد التئام هذا المؤتمر، في وقت لم يلمس تشجيعاً عربياً لهذا اللقاء. وما توقف عنده بري هو ان المبعوث الأممي – العربي الأخضر الابرهيمي زار سلطنة عمان ولم يتوجه حتى الآن الى بلدان خليجية اخرى مؤثرة في الحدث السوري، وهو سيسأله بالطبع عن هذه النقطة عندما يلتقيه في بيروت بعد عودته من دمشق التي حضر اليها قادماً من طهران.
اما عن مشاركة لبنان في "جنيف – 2" فيراها رئيس المجلس من "البديهيات"، ويقول حسناً فعل رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي لدى تأكيدهما انهما لم يستبعدا حضور لبنان المؤتمر.
ويشدد على ان "هذه المشاركة يجب ان تكون ضرورية وحتمية لأن النيران السورية وصلت الى اطراف اثواب اللبنانيين، وهل المطلوب ان نتفرج عليها مع وجود نحو مليوني سوري وفلسطيني لجأوا الى ربوعنا؟".
ويسأل: "الا يستحق هؤلاء أن يكونوا في موضوعات البحث في جنيف، وليتحمل المجتمع الدولي والبلدان الكبرى مسؤولية اللاجئين؟".
ورداً على افرقاء في 14 آذار يرفضون حضور لبنان في "جنيف – 2"، يقول: "رأفة بهؤلاء لن أرد عليهم هذه المرة".
وعلى خط آخر، يبدو ان الدفء عاد الى العلاقة بين بري ورئيس "تكتل التغيير والاصلاح" النائب ميشال عون، وان اللجنة المشتركة من نوابهما ستبحث في كل نقاط الخلاف بينهما من موضوع تلزيم بلوكات النفط الى أصغر مشروع في مجلس النواب.
وقد توصل الطرفان الى هذه الخلاصة بعد لمسهما ان لا فائدة من السجالات التي جرى فتحها بينهما في الايام الاخيرة والتي يقدمان من خلالها هدايا مجانية الى قوى 14 آذار، فضلاً عن الرئيس ميقاتي غير المتحمس، لا بل الرافض لعقد جلسة وزارية استثنائية للبحث في ملف النفط حتى لا يجلب على نفسه المزيد من الانتقادات من "تيار المستقبل" الذي لن "يصفح" له على كل ما يفعله حتى لو اتخذ خيارات سياسية تتناغم مع هذا الفريق الذي يصفي حساباته معه بدءاً من طرابلس واتهامه بترك المدينة وعدم الالتفات إليها وأخذها الى المجهول.
وبالعودة الى العلاقة بين الرابية وعين التينة، فإن بري يرد على سؤال عن كلام عون على ضرورة تحديد مدة زمنية لرئيس الحكومة المكلف لتقديم تشكيلته الوزارية، بينما مطلوب منه عند اصدار مرسوم اسماء أعضاء الحكومة أن تقدم الاخيرة بيانها الوزاري خلال 30 يوماً امام مجلس النواب، ويرفض رئيس المجلس هنا بشدة مصادرة حق رئيس الجمهورية في توقيع المعاهدات ومنعه من القيام بهذه المهمة على عكس ما هو حاصل مع الرئيس المكلف من مدة مفتوحة اثناء مدة التأليف.
ويؤكد بري في هذا الخصوص، ان ثمة تعديلات دستورية عدة يجب الالتفات اليها، لأن الوزير في بعض الحالات أقوى من رئيس الجمهورية، ويظهر هذا الامر عند توقيع المراسيم، ويشبه الدستور بـ"المنزل الجديد" الذي لا تعرف بعض العيوب فيه قبل أن تسكن فيه و"يطبق هذا على الدستور". ومنعاً لاتهامه بتوجيه هذه الاشارات في اتجاه السلطة التنفيذية، يقول ان لديه جملة من الملاحظات على النواب وعملهم في المجلس.
فعلى سبيل المثال، إذا تغيب عضو لجنة نيابية ثلاث مرات من دون تقديم عذر، ففي امكان رئيسها أن يقترح على رئيس المجلس استبداله، بينما يستطيع هذا النائب أن يغيب أربعة أعوام عن المجلس ويقبض راتبه ويبقى عضواً في المجلس.
لا يحبذ بري في سياق تقديم هذه الملاحظات التطرق اليها، لأن الدخول في الحديث عن هذه التعديلات اليوم سيدفع البعض الى اتهامه بحمل المطرقة في وجه "جدران" اتفاق الطائف، وقت يتبادل الاتهامات مع "تيار المستقبل" بـ"الديكتاتورية المقنعة" والرد عليه بـ"السلطة المجلسية"، لأن اعلان رئيس الحكومة استقالته – بحسب رأيه – يشل كل شيء في البلد بدءاً من رئاسة الجمهورية الى أصغر موقع. في حين انه كان يأمل أن يبقى مجلس النواب مستمراً في مهمته التشريعية وقبلها الرقابية.
وما قاله في هذا الخصوص لميقاتي وهو يشدد على حججه الدستورية: "لو خرج والدي من القبر وتسلم رئاسة الحكومة لمارست الاقتناعات والسياسة نفسها التي أطبقها اليوم".