إنه "سجن رومية" تسمع عنه الكثير ولكن عندما تدخله يختلف الأمر فهو استحقّ فعلا لقب "الإمارة"... فيه الحكم الذاتي، المخالفات، الفلتان الأمني، وكلّ ذلك تحت نظر الدولة التي تغض الطرف دون حتى أن تسأل أو تحاسب، وكأن هناك قراراً سياسياً بـ"تمرير" كلّ ما يحصل في الداخل. فبات هذا السجن إمارة يحكمها المساجين ويستعملها السياسيون ورقة ضغط تشتعل وتنظفئ ساعة يريدون.

أمراء على هالبلد!

في داخل ذلك السجن تعيش فئة من السجناء كالأمراء، هم مسؤولون عن القوى الأمنية لا العكس كما يفترض ان يكون. تؤمن لهم الهواتف الخليوية و"الإنترنت" وكل وسائل الرفاهية الى حد أن بعضهم بات يرفض الخروج من ذاك المكان. فاستبدلت الدولة المساجين بالقوى الأمنية لتطبق عليهم القانون فحرمتهم من كلّ ما منحته للمساجين، هذا ما دفع أحد عناصر القوى الأمنية في داخل السجن الى القول "أي دولة هيدي نحنا ممنوع يكون معنا تلفون بالخدمة والسجناء عندهن إنترنت على التلفون... تفه على هالبلد!"

الأمن يتفاوت بحسب المبنى!

وماذا نقول عن الفلتان الأمني؟ حدّث ولا حرج، وعلى غرار كل السجون، تحول المساجين في رومية الى حرّاس، خصوصاً في مبنى "ب" المخصص لموقوفي "فتح الإسلام". الى ذلك المبنى يمنع حتى على القوى الأمنية الدخول الا بإذن من المساجين أنفسهم، وفي حال طالبوا بأمر ما ولم ينفذ قد يخطفون عدداً من رجال الأمن ليحققوا مطالبهم.

حال الأمن في بقية المباني في رومية أفضل من المبنى "ب" فاليها يسمح للحراس بالدخول ولكن للمشاهدة فقط لا لفرض الأمن، هذا ما شاهدته "النشرة" خلال مشادة بين السجناء في مبنى المحكومين، ففي لحظة يعلو الصراخ ويبدأ العراك فما كان من عنصرين من القوى الأمنية الا أن إبتعدا عن "المشكل" وبعد إنتهاء العراك سألنا أحدهما فاكد لنا أنه "يمنع على أي عنصر من قوى الأمن أن يتدخل في عراك بين السجناء فهم يحلون مشاكلهم بأنفسهم".

سجناء ملوك!

ويبدو ان تسمية "الوزير الملك" وصلت الى السجون حيث استبدلت الكلمة الاولى بكلمة "سجين"، فبات بعض السجناء في رومية كالملوك فيما ينتظر الآلاف "الفرج" ولو انهم لا يؤمنون انه قريب. الى تلك الفئة المنسية توجهت "النشرة" والى ذلك السجن المظلم دخلت تتقصى حقائق أقل ما يقال فيها إنها تدمي القلوب. "الصدمة" هي الإنطباع الأول لمن يشاهد منظر المباني ومن يراها لا يستطيع أن يصدق أن بشراً يعيشون فيها لانها اشبه بـ"زريبة"... تمرّ أولاً بالـ"السكانير" حيث يتم تفتيشك للدخول، هنا فقط تشعر برقابة تكاد تكون صورية.

حياة لا تصلح الا "للبهائم"!

فتحت الأبواب ودخلنا الى مبنى المحكومين. في الباحة الخارجية السجناء منتشرون يتشمسون على فرش "ممزقة وسخة تكفي وحدها لجلب أخطر الأمراض"، السجناء وجهوهم صفراء كأنهم لم يروا لا الأكل ولا الشمس منذ سنوات. تهافتوا إلينا وتجمعوا حولنا يشكون لنا مصائبهم... يطلبون منا عدم التجول في السجن لأن "البكاء" أقل ما سيصيبنا... هناك الحياة لا تصلح حتى "للبهايم" على حد قول وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال مروان شربل. فعن ماذا نتحدث؟ عن المشاهد "المقرفة" التي رأيناها في ذلك المكان، أو عن النفايات في السجن أو عن الصراصير والهررة ومختلف أنواع الحشرات التي تصول وتجول الى جانب طعام من يدري منذ متى صنع أو على ماذا يحتوي؟ أم عن الروائح التي تفوح في الزنزانات ومن يشمها لا يستطيع تحديد سببها، أهي نتيجة عدم تنظيف المكان منذ سنين أم لأسباب أخرى... وفي هذا الخصوص يقول أحد السجناء "كلّ إنسان يشعر أنه بحاجة الى دخول الحمام خلال الليّل، ولكن ماذا يفعل من يشعر بأنه بحاجة الى دخول الحمام وهو خارج الزنزانات والأبواب مقفلة والحراس نيام...؟

يؤكد بعض السجناء أنهم "سيخرجون الى الخارج لينتقموا ممن فعل بهم ذلك وأدخلهم السجن"، معتبرين أن "حياتهم انتهت ومستقبلهم ضاع".

نظارات تفوح منها روائح العفن!

دخلنا "النظارة" تلك الغرفة المعتمة يعيش فيها سجناء لا أهل لهم ولا من يسأل عنهم. عند المدخل تتماسك حتى لا تتقيأ ففيها روائح "العفن" و"المرض" و"الوسخ"، هي فعلا ليست غرفاً بل ممراً إستعمل لينام فيه السجناء لشدة الإكتظاظ. على إحدى الفرش يقبع محمود، وهو سجين منذ سنوات ومحكوم عليه بالإعدام وعلامات الأيام السوداء التي أمضاها في رومية ظاهرة المعالم. تظن أنه نائم ولكن في الواقع لا يستطيع أن يمشي جيداً يتنقل محني القدمين، تأسف عند رؤيته وتدرك كم أن كرامة الإنسان باتت رخيصة. "فقباحة ذلك السجن والسنوات الطوال التي أمضاها داخل "قضبان ملوثة" جعلته مريضاً ومن يدري ما تخبئ الأيام له. يؤكد محمود أن "لا غذاء ولا نظافة ولا أي شيء يُقدّم ليساعدنا على التخلص من المرض وهو فعلا ما يظهر لأي شيء فالحشرات هناك باتت رفيقة الإنسان تعيش معه وبجانبه تأكل من صحنه وتتغذى منه".

أما سعد ع. وهو المسجون من سنة ونيف فيشرح: "نحن مجرمون نعم ونستحق العقاب ولكن هذا السجن هو عقاب أكبر من كلّ ما إرتكبناه، فاضافة الى الحياة التي نعيشها، القضاء لا يساعدنا بشيء، تتأخر محاكماتنا سنوات وسنوات ونحن قابعون هنا"، ويشير الى أن "من يحكم عليه بالسجن بعد معاناة طويلة تضيع عليه السنوات التي امضاها قبل المحاكمة"، وفي هذا السياق تؤكد المحامية موهانا اسحق أن "جرائم القتل والمخدرات والتي تمس بأمن الدولة هي التي يتم فيها توقيف المتهمين مدة طويلة"، مشيرةً الى أن "محاكمات الجنائيات تستغرق وقتا طويلا نظرا للمراحل التي يمر بها الملف من التوقيف بالمخفر الى قاضي التحقيق وصولا للهيئة الاتهامية لمحكمة الجنايات وهنا بعض المحاكمات تستغرق سنوات بحسب نوع الجرم وعدد الموقوفين في الملف والمتهمين".

ظلم المحامين!

وسط كلام سعد، يعلو صراخ أحد المساجين ويقول: "نتحدث عن المحاكمات وماذا نقول عن ظلم المحامين الذين يسرقوننا ويأخذون أموالنا ويتركوننا بعدها؟"، مضيفا "أنا دفعت لمحاميّ وهو تركني ولم يتول الدفاع عني"، ويقول بكل أسى "أنا سأعود الى هنا لأنني عندما أخرج سأتحاسب معه وبالتالي سأعود الى هذا السجن"، على هذا الكلام ترد إسحق بالقول أن "المحاماة هي مهنة حرة وهذا يعني أن لا أحد مسؤول عن المحامي سوى ضميره"، مؤكدة أن "المراقبة موجودة في حال أخل بمهنته وبواجباته ولم يلتزم وفق الأصول يستطيع عندها الشخص المتضرر أن يقدم شكوى بحقه لدى نقابة المحامين وفي حال التثبت من أنه اخطأ ممكن أن يلاحق أمام القضاء بعد رفع الحصانة عنه".

حكاية الجد يوسف!

أكملنا الجولة وشاهدنا ورأينا.. بعض الحزن على حياة أناس أخطأوا ولكن خطيئتهم، ولو مهما كانت كبيرة، لا تفقدهم كرامتهم كبشر... وبالتالي لا تشرّع هذه الحالة التي هم "مرميّون" فيها داخل السجن. مبنى الموقوفين لا يختلف حاله عن مبنى المحكومين. فيه التقينا الجد يوسف س. إبن الثمانين من العمر، لا يتردد في ذرف الدموع عندما يروي قصته المأساوية، هو الذي لا يسمع ولا يرى وبالكاد يستطيع السير، بشرته المتجعدة تحمل علامات الأيام المريرة التي أمضاها في رومية. "آخ يا بيي شو بدي خبركن، كثير مشتاق لأولادي، ما بعرف ليش أنا هون ما بدي شي إلا الرحمة". هو الذي يعيش خلف تلك القضبان والذكريات رفيقته حملها معه من الخارج وهي وحدها تؤنسه في الأوقات العصيبة وتساعده على تحمل مرارة الأوقات التي يمضيها.

دعاوى تظهر بعد سنوات!

هو ليس الوحيد الذي يصرخ طالباً الرحمة فأمثاله في سجن رومية كثر. في الطابق الثالث من مبنى "د" يعيش مئات من الأشخاص تجمعوا حولنا كلّ يخبرنا قصّة، وسط تلك الجموع التي بالكاد تراها في ظلام ذاك المكان كان سعيد حسنين إ. هو الذي إنتهى من تنفيذ الحكم عليه بعد قضائه سبع سنوات في السجن وحين حان موعد الخروج "ظهرت دعوى جديدة منسية في أدراج المحاكم منذ عام 2006".

يقول حسنين "هل يعقل أن الدولة تحاسبني اليوم على مذكرة صدرت بحقي عام 2006، فلماذا لم تقم حينها بمحاسبتي عليها؟" ويتساءل "هل نحن نعيش في دولة، أم إنها عصابة لا تطبق الا شريعة الغاب؟"

في رومية كما في كلّ السجون في لبنان يدخل المجرم الى السجن فيخرج منه خبيراً في عالم الإجرام، خصوصاً بالظروف الموجودة في السجون والتي تطرقنا إليها وبغياب برامج التأهيل التي باتت من البديهيات في سجون العالم.

تصوير حسين بيضون

للاطلاع على ألبوم الصور كاملاً، إضغط هنا