يُحصي الطرابلسيون منذ أكثر من ثلاثة عقود مجموعة الخطط الأمنية التي خضعت لها المدينة في سلسلة تجارب فاشلة حتى اليوم، بعدما ثبَت لديهم أنّ ما رُسم من خطط لم يُترجم بعد، أو لم يكتمل فصولاً ما جعلها ساحة تجارب تعزَّزت الإنقسامات المذهبية والمناطقية فيها، فكيف السبيل الى تغيير المعادلات التي تحكمها؟
لم يحصل سابقاً أن أمضى وزيرٌ للداخلية سنوات من خدمته العسكرية والأمنية الفعلية وهو في ذروة عطائه في عاصمة الشمال ومحيطها الإداري والأمني، فهو خبير في معظم شوارع المدينة وأحيائها وضواحيها ويمكنه المناقشة في همومها الأمنية بما يختزنه من معلومات عن مكامن الخلل فيها وإدراكه حجم وشكل خطوط التماس التي كرَّستها المواجهة القديمة المتجددة بين بعل محسن وجاراتها وباب التبانة واحدة منها، ما جعَل طرابلس منطقة توتّر دائمة تستقطب الإنعكاسات السلبية كلها لأحداث سوريا بوجود من انتدَب نفسه ليكون ممثلاً للنظام، وآخر داعماً للثورة بما أوتيا من مال ورجال وسلاح.
وربّ مَن يسأل؟ متى ستنعم هذه المدينة بشيء من الأمن لم تحظََ به بوجود رئيس حكومة وأربعة من وزرائه منها؟ وقد ظهر لدى العارفين بأدق اوضاعها أنّ ثمّة من يترصّد القوى الأمنية للإيقاع في ما بينها او لتعميم الإنقسامات المذهبية والطائفية عليها، فيقول أحدهم إنّ طرابلس لن تشهد هدوءاً طالما هناك اعتقاد بأنّ امن بعل محسن العلوي من مهمة الجيش، وأمن التبانة السنّية من مهمة قوى الأمن الداخلي، فيما الحاجة ماسة الى انهاء هذا المنطق والغاء خطوط التماس المذهبية قبل الأمنية.
وخير مثال على هذه النظرية السلبية، ما شهده الإجتماع الذي انعقد مساء الجمعة الماضي في منزل مفتي المدينة الشيخ مالك الشعار الذي شارك فيه وزير الداخلية مروان شربل بعد اتصالات تلقاها من المفتي شخصياً، وبعده من النائب محمد كبارة ورئيس هيئة العلماء المسلمين الشيخ سالم الرافعي، فوافق على عقد الإجتماع في منزل الشعار دون غيره، باعتباره الأكثر حياداً.
وبوصول شربل الى منزل الشعار، فوجئ بالحشد المشارك ومن بينهم قادة المحاور ومنهم كل من خالد السيد وسعد المصري وغيرهما، فدار حوار عمّا يجري في المدينة، فقدم شربل عرضاً للخطة الأمنية المتوقع استكمالها في الأيام المقبلة والتي تقضي بنشر القوى العسكرية والأمنية في عمق مناطق الطرفين و"ما يسير في بعل محسن يجب أن يكتمل في باب التبانة". فاعترض البعض، ما دفع الرافعي إلى اقتراح نشر قوى الأمن الداخلي في احيائها، فوافق شربل وقال إنّ "هذه المهمة في الأحياء السكنية هي لقوى الأمن التي يمكنها استدعاء دعم الجيش متى إحتاجت اليه"، مؤكداً أنّ "الإمرة للقيادة العسكرية انتشاراً ومهمّات واعطى مهلة 24 ساعة للرد، لتستكمل القوى تنفيذ الخطة شرط أن لا يتكرّر ما حصل مع الجيش عندما بنى ساتراً رملياً لحماية آليته في باب التبانة فتعرَّض للنار". فاعترض أحد قادة المحاور شاكياً أنّ "مدفع الآلية كان موجهاً الى باب التبانة"، رافضاً "حصار المنطقة"!
هنأ بدأ حوار أنهاه الشعار بالدعوة الى "الإفادة من وجود وزير للداخلية، الذي يلبي دعواتنا في ساعات قليلة، رايح جايي على طرابلس... وزير محايد ومتعاون يتفهم ما نعانيه ولا ولاءات خارجيّة له"، فقاطعه احد قادة المحاور، معتبراً أنّ "هذا الكلام إستفزازي".
فقاطعه شربل قائلاً بصوتٍ عالٍ: ما الذي تريدونه؟!، في لحظات تتغير وجهة المدفع. تتهمون الجيش بالرد على باب التبانة فقط، فالجيش يتمركز في بعل محسن من طرف واحد، وإذا لم ينتبه الى ما يجري خلفه يرد باتجاه مصادر النيران التي تستهدفه، وإذا كانت من باب التبانة سيردّ عليها، ولو كان منتشراً على جهتَي المحاور، وهو امر ترفضونه حتى اليوم، لكان أمكنه ضبط الوضع ورصد مصادر النار بدقة، وبهذه الطريقة تختصرون المأساة وتتوقف الأحداث المؤلمة". و"المؤسف"، أضاف شربل: "ترفضون دور الجيش. ألا تعرفون انّ أكثرية الجيش من ابناء عكار والشمال "وعلى المشبرح من السنّة"، فهم الخزان الأكبر للمؤسسة العسكرية. انزعوا من رؤوسكم فرز القوى الأمنية والعسكرية، فهي كلّها مكلفة بالمهمة الأمنية عينها، واتركوا لها أن توزّع الأدوار والمسؤوليات وكفى".
وعند هذه الواقعة إنتقل البحث في الخطط الأمنية الى مواقع أخرى، وكان ما كان في يوم "إحقاق الحق" الى الأمس القريب، حيث اغتيل الشيخ سعد الدين غّية، من دون ان يلوح في الأفق موعد محدّد لاستكمال الإنتشار في باب التبانة، فالقوى الأمنية باتت جاهزة في انتظار ساعة الصفر.