أطنان من أنابيب الاترنيت العملاقة لا تزال مرمية في الهواء الطلق على الطريق بين شكا والهري. هناك حيث عمل مئات العمال لسنوات طويلة في شركة الاترنيت وأصيب بعضهم بأضرار مباشرة. تُركت الانابيب من دون أي معالجة، تنشر ألياف «الاسبست» على مساحة واسعة من هذه المنطقة، لتستمر الكارثة الصحيّة.
استخدمت شركة الاترنيت سابقاً مادة «الاسبست» في عملية التصنيع، وبعد سنوات طويلة من استخدامها، أُعلن أنها مسرطنة، تدخل إلى الرئتين ولا تغادرهما، وقد تؤدي إلى الموت.
يشرح رئيس هيئة حماية البيئة في شكا، بيار أبي شاهين، أن «القيمين على الشركة لم يعلموا في البداية خطورة هذه المادة، ولكن بعد صدور الدراسات العلمية، أقفلت شركات الاترنيت في مختلف البلدان حفظاً للسلامة العامة.
أما في لبنان، فعمد صاحب الشركة (رجل الاعمال ستيفن شيدهيني) إلى بيعها بسعر بخس لرجال أعمال لبنانيين، أكملوا إنتاج الاترنيت حتى عام 1991، عندها رفع الاهالي شكوى مطالبين بإقفال الشركة. تطلبت الاستجابة أكثر من 6 سنوات، حتى صدر قرار رسمي بذلك». يقول أبي شاهين «في ذلك الوقت أفلست الشركة وهرب أصحابها، عُيّن عليها حارس قضائي. لكنها لم تقفل وفقاً للشروط المعتمدة دولياً».
حكم بالموت البطيء
هكذا إذاً حُكم على المئات من القاطنين في شكا وجوارها بالموت البطيء. فضرر «الاسبست» لم ينحصر في عمال الشركة السابقين، بل امتد إلى البلدات المحيطة بالمصنع، وإلى أفراد أسر العمّال أنفسهم.
هذه المادة تدخل إلى الرئتين من خلال التنفس، وبالتالي، عندما كان العمال يعودون إلى منازلهم وعلى ثيابهم غبار المعمل، كانوا يعرضون أسرهم للخطر، إذ بمجرد نفض الغبار ينتشر السم في الهواء ليفترس ضحايا آخرين. يقول جميل صديق، ابن بلدة الهري، الذي خسر أقرباء له وعدداً من أبناء بلدته بسبب هذه المادة. ويضيف أن «ما زاد الطين بلّة أننا كنا نشتري هذا الغبار الذي كانت تجمعه الشركة، فنمزجه بالماء ليصبح كالأسمنت ونضعه أمام منزلنا».
فقد جميل صديق خاله بعد صراع مع مرض السرطان، وهو يعدد عن ظهر قلب أسماء كل الأشخاص الذين ماتوا أو الذين ينتظرون الموت في بلدته بسبب الإصابة بهذا المرض الخبيث. يقول «يوماً ما سينتفض الناس ويطردون مسبّبي الأمراض من هنا. ففي النهاية للصبر حدود». يشير الطبيب إميل منصور، أحد مؤسسي مستوصف شكا، الى عدم وجود أي إحصاء رسمي لعدد المصابين بالسرطان الذي تسببه هذه المادة، المعروف علمياً باسم «ميزوتيليوم»، لكنه يؤكد أن «الحالات عديدة، لأن مادة الاسبست انتشرت في كل الشمال وصولاً إلى زغرتا. بعض الناس ماتوا، والبعض الآخر في حالة مرض شديد، لا مجال للشفاء منه»، يقول «يعيش سائر الأشخاص في خوف وترقب، وغالبيتهم يعلمون أنهم يحملون هذه المادة في داخلهم ولا يعرفون متى ستسيطر عليهم». ويرى أن «حجم المصيبة بات أكبر بسبب شراء الناس لهذه المادة سابقاً وصبّها أمام منازلهم». ويشرح «كان من يحصل على هذه المادة يعتبر نفسه محظوظاً، أو صاحب واسطة مهمة، لأن الناس كانوا يترجون القيمين على الشركة لكي يشتروا فضلات صناعة الاترنيت، لأن مزجها بالماء يجعل منها مادة متينة وأقل سعراً من الأسمنت». يشدد منصور على أن «أحداً لم يكن على علم بأنه يضع المرض على باب بيته».
300 وفاة حتى الآن
يؤكد أبي شاهين وجود أكثر من 700 إصابة في المنطقة، ووفاة نحو 300 شخص بهذا المرض في قضاء الكورة وحده. ويوضح أن «الشركة لم تُقفل بشكل صحيح ووفقاً للشروط المعتمدة دولياً، وهذا ليس مقبولاً».
يقول الطبيب إميل منصور إن «على الدولة اللبنانية أن تقوم بحملة تنظيف شاملة لشكا والجوار من الاترنيت، إذ إن وجوده في المنازل وخارجها يعرّض حياة الناس للخطر، لكونه معرّض في أي حين للكسر أو النشر، ما يؤدي إلى تطاير شعيرات منه، وبمجرد تنشقها يدخل الاسبست الى الرئتين ويمكث فيهما»، موضحاً أن كندا، بعد اكتشاف أضرار تلك المادة، أخذت على عاتقها نزع الاترنيت عن المباني والمنازل وطمرها».
الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تطرح إقفال المعمل وفق الأصول، «فالمسألة معقدة جداً» بحسب مصادر وزارة البيئة، «وطرق التخلص من هذه المادة صعبة، لذلك تم تعيين الحارس القضائي لكي لا يمس أحد بها». وتجدر الإشارة إلى أن الشروط العالمية للتخلص منها، تقتضي تغليفها بغلافين عازلين ومن ثم صبّ الأسمنت عليها وطمرها في أماكن مخصصة لهذا الغرض. أما أبي شاهين فيشدد على أن «ما من شيء صعب أو مستحيل إذا صدر قرار حكومي بإزالتها بالتعاون مع شركات متخصصة، ولكن على ما يبدو لا وجود لقرار كهذا حتى الساعة».
يرفض منصور إجابتنا عن الأسئلة المتعلقة بالشركة، فالملفات البيئية في شكا باتت بالنسبة إليه «قذرة جداً». ويقول «شو وقفت على الاترنيت»، فكل المواضيع تستهلك دون أي نتيجة: «لا يتحرك أي وزير ولا أي ضمير. وفي المقابل فإن مسؤولينا المحليين لا يملكون الوعي الكافي، هذا إضافة إلى التدخلات السياسية».
بالنسبة إلى جميل صديق فإن «الدولة باعت أبناء المنطقة، وسياسيينا ملوّثون أكثر من الشركات، وإلا كيف يسمحون بأن يحصل بنا كل هذا وكأن شيئاً لم يحدث؟».
سجن صاحب الشركة في إيطاليا
قام أبي شاهين بمراسلة مؤسس شركة الاترنيت، ستيفن شيدهيني، طالباً منه أن يدفع تعويضات لأهالي المنطقة، تماماً كما فعل في إيطاليا بعد أن دانت محكمة ايطالية رجل أعمال آخر بتهمة التسبب بوفاة 2200 شخص، وحُكم في شباط 2012 على ستيفن شيدهيني نفسه بالسجن لمدة 16 عاماً.
هذه الحالات تم ربطها باستخدام «الاسبست». وقالت محكمة تورين إن الاثنين فشلا في الالتزام بقواعد الصحة والسلامة في بناء شركة اترنيت كانا من ملاك أسهمها الاساسيين. لم يتجاوب شيدهيني مع مراسلات أبي شاهين، في حين لم يقدم أي من أهالي الضحايا في الكورة على رفع دعوى مماثلة أمام القضاء اللبناني أو الأوروبي.
وبحسب حيثيات الحكم الايطالي الذي نشرته هيئة الاذاعة العامة البريطانية، بي بي سي، فإن الادعاء العام دفع أثناء المحاكمة بضرورة تشديد العقوبة، مشيراً الى أن آثار استخدام المادة ما زالت تؤثر في الضحايا. ونقلت وكالة فرانس برس عن بييرو فيراريس، الذي توفي والده العامل في مصنع محلي في ايترنيت بسبب إصابته بسرطان الرئه، قوله «ستسجل هذه المحاكمة في التاريخ، لكنها لن تعيد إليّ والدي». وكانت شركة الاترنيت قد أوقفت عملياتها في إيطاليا في عام 1986، أي بعد 6 أعوام من منع استخدام الاسبست في البلاد، تماماً كما حصل في لبنان، مع فارق جوهري، أن العدالة هنا صمّاء.