يبدو واضحاً، أن الخطة الأميركيةـ الإخوانية لعرقلة تنفيذ خارطة طريق المرحلة الانتقالية، التي رسمتها ثورة 30 يونيو المصرية بعد عزلها الرئيس محمد مرسي، اتخذت مسارين اثنين:
الأول:ممارسة واشنطن ضغطاً متواصلا على الحكومة الانتقالية والمؤسسة العسكرية باستخدام سلاح المساعدات التي تقدمها لمصر عبر وقف جزء منها وربط استئنافها بالعودة إلى الالتزام بالإستراتيجية الأميركية، وعدم مغادرة التزامات مصر السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تتبعها في ظل نظام حسني مبارك، وفي عهد حكم الإخوان.
والى جانب استخدام سلاح المساعدات جرى القيام بتحرك دبلوماسي أميركي غربي باتجاه الحكم الجديد لدفعه لإعادة النظر بقرارات ثورة 30 يونيو، وبالتالي إيجاد صيغة لعودة الرئيس المعزول إلى منصبه، ومن ثم إجراء استفتاء لتقرير ما إذا كان الشعب المصري يريد استمراره في الرئاسة، أم يؤيد إجراء انتخابات رئاسية جديدة.
الثاني: قيام الإخوان بمواصلة تحركاتهم على الأرض، والمراهنة على زيادة زخم تظاهراتهم، وإثارة القلاقل وعدم الاستقرار في البلاد لمنع الحكم الجديد من النجاح في خطته لتنفيذ خارطة طريق المرحلة الانتقالية، وبالتالي إجباره على التراجع عن قرار عزل مرسي تحت الضغط المستمر عبر الشارع من جهة، وعبر تصعيد عمليات العنف والإرهاب لإشغال الجيش المصري وإنهاكه من جهة ثانية.
غير أن هذه الخطة المزدوجة، لم تنجح في تحقيق أهدافها، وجاءت التطورات الأخيرة لتؤكد فشلها من ناحية، ونجاح الحكومة الانتقالية في قطع شوط كبير في تنفيذ المرحلة الانتقالية ورسم سياسة مصرية جديدة من ناحية ثانية.
لكن ما هي المؤشرات على فشل الخطة الأميركية ـ الإخوانية، وتقدم خارطة الطريق نحو مبتغاها ؟
المؤشر الأول: تمسك الحكم الجديد في عدم الرضوخ للضغوط الأميركية ـ الإخوانية، فمن جهة رفض الابتزاز الأميركي بوقف المساعدات، وقرر البحث عن بدائل أخرى حتى لا تبقى مصر تحت رحمة المعونة الأميركية التي تستخدم وسيلة لفرض التبعية والهيمنة عليها، ومن جهة ثانية تصدى بحزم لمحاولات الإخوان إثارة الفوضى وعدم الاستقرار عبر اعتقال قيادات الصفين الأول والثاني، وواجه بقوة الإرهابيين الذين يعتدون على القوات المسلحة ويحاولون اثارة الفتنة بين المسلمين والاقباط.
المؤشر الثاني: سجلت التظاهرات الإخوانية المزيد من الانحسار والتراجع في حجم المشاركين فيها، وبلغت أدنى مستوياتها في يوم بدء محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي، حيث استنفر الإخوان وحضروا لانتفاضة في جميع أنحاء مصر رفضا للمحاكمة، لكن جميع التقارير الصحفية فشل الإخوان في تحركهم، حيث أن أفضل التقديرات لأعداد المشاركين في التظاهرات لم تتجاوز عشرات الآلاف، ولهذا لم تؤثر على مجرى محاكمة مرسي الذي تحول إلى سجين وقيد للمحاكمة بتهم التحريض على العنف، وهذا الرقم كان مفاجئا للدول الغربية التي كانت تراهن على نزول مئات الآلاف إلى الشوارع دعما لمرسي كي تتمكن من الاستناد إليه لزيادة منسوب ضغطها السياسي والدبلوماسي على الحكم الانتقالي.
المؤشر الثالث: رضوخ الولايات المتحدة للإرادة المصرية المستقلة التي عبرت عنها الحكومة المصرية الانتقالية، واضطرارها إلى التوقف عن مواصلة سياسة الضغوط وتوتير العلاقات، والاعتراف بنتائج ثورة 30 يونيو والعمل على اصلاح العلاقات مع الحكومة الانتقالية، وهذا ما عكسته نتائج زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري للقاهرة واجتماعاته مع المسؤولين فيها، والمواقف التي أعلنها خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره المصري نبيل فهمي، حيث تجنب الإتيان على ذكر أي قضية داخلية مصرية لاسيما محاكمة مرسي، بعدما لمس حساسية لدى المسؤولين المصريين إزاء التطرق إلى أي قضية داخلية باعتباره تدخلاً بشأن داخلي ومسا بالسيادة الوطنية غير مسموح به.
المؤشر الرابع: تكريس الحكم الجديد سياسة تنويع العلاقات الخارجية لمصر واستطراداً مصادر تسليحها، وتجلى ذلك بشكل واضح في تبادل الزيارات الرسمية والشعبية بين موسكو والقاهرة، والتي كان آخرها زيارة وفد استخباراتي عسكري روسي إلى القاهرة وإجرائه مباحثات مع المسؤولين المصريين تركزت حول احتياجات مصر العسكرية وإعادة صيانة وتحديث الأسلحة الروسية التي تملكها، وتجديد التعاون العسكري بين البلدين، في حين قام وفد سياسي وشعبي مصري بزيارة موسكو لأجل التأكيد على إعادة إحياء العلاقات التاريخية بين البلدين، فيما ينتظر زيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين إلى القاهرة للاجتماع مع نظيريهما المصريين، مما يعكس قطع الاتصالات الثنائية شوطاً مهماً لاستعادة علاقات التعاون.
المؤشر الخامس:انجاز لجنة الخمسين لصياغة الدستور المصري الجديد قسما كبيراً من مواد الدستور حيث تم إقرار خمسين بالمائة منه، فيما النقاش في الخمسين الثانية قد شارف على الانتهاء.
وتزامن ذلك مع تحديد موعد الانتخابات النيابية والرئاسية في العام المقبل.
هذه المؤشرات تؤكد الخلاصات التالية:
الخلاصة الأولى: إن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لم تعد ممكنة، فالعودة لعهد مبارك أو حكم الإخوان أصبحت مستحيلة، وأي حكم جديد لمصر لا يمكن إن يستقر إذا لم ينتهج سياسات جديدة تعبر عن تطلعات ثورة 30 يونيو في تغيير سياسات مصر بما يخرجها من فلك التبعية لأميركا ويستعيد قرارها المستقل، ويرسي أسس التنمية الاقتصادية المستقلة ويحقق العدالة الاجتماعية للمصريين، والتي افتقدوها طوال اكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وكانت سبباً في ثورتهم ضد حكم مبارك، ومن تم ضد حكم مرسي.
الخلاصة الثانية: تموضع مصر في موقع جديد يجعلها على مسافة من الدول الكبرى والإقليمية انطلاقاً من قاعدة الاستقلالية في مواقفها، غير أن مثل هذه السياسة التي تمليها المرحلة الانتقالية لم تحسم خيارات مصر من قضايا ومسائل أساسية مثل اتفاقيات كامب ديفيد، والموقف من القضايا القومية، وفي المقدمة قضية فلسطين وموقع مصر في الصراع العربي ــ الصهيوني، لان تحديد موقف مصر من هذه القضايا ينتظر إجراء الانتخابات وتشكيل مؤسسات الحكم الذي يحظى بتمثيل شعبي قوي قادر على حسم الموقف إزاء مثل هذه القضايا والمسائل.
الخلاصة الثالثة: إن الولايات المتحدة الأميركية لم يعد أمامها سوى التسليم بما يقرره الشعب المصري من خيارات سياسية واقتصادية حتى لا تخسر العلاقات نهائيا مع مصر، لان ممارسة الضغوط على مصر حتى تبقى تدور في فلك الهيمنة الأميركية يعني تكرار السلوك الذي اتبعته واشنطن مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي لن يقود إلا إلى توتر العلاقات وجنوح مصر أكثر نحو مزيد من التحولات الراديكالية في سياساتها، وبالتالي التحرر سريعا من قيود اتفاقيات كامب ديفيد، والعمل على زيادة وتيرة توطيد وتعزيز العلاقات مع روسيا، ودول البريكس المنافسة للدول الغربية، والتي تنتهج سياسات تقوم على احترام سيادة الدول واستقلالها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.