هي صفحةٌ جديدة فُتِحت في العلاقات الدولية من شأنها، إن تمّ الالتزام عمليًا بها، أن تقلب كلّ توازنات المنطقة رأسًا على عقب..
هكذا، وبين ليلةٍ وضُحاها، تحقّق ما كان "مستحيلاً" قبل فترة وجيزة، وما لم يكن "المتفائلون" من السياسيين العارفين ولا حتى "أصحاب الإلهام"، كما يسموّن أنفسهم، يتوقّعونه قبل أشهرٍ قليلة..
هي أميركا، "الشيطان الأكبر" كما يصفها الإيرانيون الذين كانوا يهتفون لها بـ"الموت" حتى الأمس القريب، وقد تلاقت في منتصف الطريق مع إيران، تلك الجمهورية الإسلامية التي كانت تضعها في صدارة ما تسمّيه "محور الشر"، لكنّ كلّ هذه التسميات باتت على ما يبدو من "الماضي"، مع إنجاز الإتفاق بين الدول الغربية وإيران.
وإذا كانت النتيجة "البديهية" للإتفاق أنّ البرنامج النووي الإيراني سيستمرّ كما أعلن المسؤولون الإيرانيون، مدعومًا هذه المرّة بـ"مباركة غربية" شرط عدم توسّعه لحدّ صنع قنبلة نووية، فإنّ "حبس الأنفاس" طبع المنطقة، ولا سيّما دول الخليج المجاورة لإيران، التي التزمت "صمتًا" لم يخرقه سوى تصريحٌ مقتضب لمسؤولٍ سعودي اعترض على أجندة إيران "القبيحة"، كما وصفها!
"المستحيل" تحقّق وأصبح واقعًا..
لم يعد الإتفاق الإيراني الغربي مجرّد كلامٍ في الهواء، ولم يعد الحديث عنه تجسيدًا لـ"خرافات" و"تخيّلات" كما أصرّ البعض على تصويره طيلة الفترة الماضية، إذ حوّله فجر الأحد إلى "أمرٍ واقع" لا بدّ من التماشي معه، ولو يبقى الحُكم عليه مرتبطًا بمدى "الالتزام" به، حيث تبقى الخشية من "الشياطين" الكامنة في "التفاصيل".
المهمّ أنّ "المفاوضات الشاقة" التي استمرّت أربعة أيام ووصلت الليل بالنهار أثمرت، حيث تمكنت مجموعة 5 + 1 للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن (الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين الى المانيا) من جهة، وايران من جهة ثانية التوصل إلى اتفاقٍ وُصِف بالتاريخي لاحتواء البرنامج النووي الايراني في مقابل رفع جزئي للعقوبات المفروضة على الجمهورية الاسلامية.
يتضمن الاتفاق "مرحلة أولى من ستة أشهر قابلة للتجديد باتفاق مشترك"، وينصّ على "إجراءات" ستتّخذها إيران "بشكلٍ طوعي"، ومنها إعلان إيران أنها لن تخصّب اليورانيوم الى ما فوق 5% خلال ستة أشهر، وأنها لن تواصل نشاطاتها في مصنع ناتنز وفوردو ومفاعل اراك، وأنه لن تكون هناك مواقع تخصيب جديدة، كما أنّها ستسلم بموجب الاتفاق معلومات مفصلة الى الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتضمن تصاميم المنشآت النووية ووصفاً لكل مبنى في كل موقع نووي. في المقابل، تلتزم "5+1" بتخفيف العقوبات عبر تعليق الجهود لفرض مزيد من الخفض على مبيعات إيران من النفط الخام، ما يتيح للزبائن الحاليين لإيران مواصلة شرائه بالمعدلات نفسها، تعليق عقوبات الولايات المتحدة حول صناعة السيارات في إيران وحول الخدمات المرتبطة بها، لا عقوبات جديدة من مجلس الأمن مرتبطة بالنووي، لا عقوبات جديدة من الاتحاد الأوروبي مرتبطة بالنووي، وكذلك تعليق عقوبات الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة حول الذهب والمعادن الثمينة والخدمات المرتبطة بهما، وحول الصادرات البتروكيميائية الايرانية والخدمات المرتبطة بها.
خطوة أولى.. أم خطأ تاريخي؟
وفي حين حظي الاتفاق الغربي الايراني بـ"ترحيب شامل" رغم "التحفّظات" التي برزت عليه في أكثر من مكان، لفت حرص الرئيس الأميركي باراك أوباما على القول أنّ هذا الاتفاق "يقفل الطريق الاوضح" أمام طهران لتصنيع قنبلة نووية، مع تجديده دعوة الكونغرس الى عدم التصويت على عقوبات جديدة على ايران، فيما اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان "اختراقاً تحقق، الا انه يبقى خطوة أولى في طريق طويلة وصعبة"، ورأى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في الاتفاق "مرحلة نحو وقف البرنامج النووي الايراني".
وفي إيران، رحب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي بالاتفاق الذي توصلت إليه القوى العالمية في جنيف، معتبرًا أنه أساس مزيد من التقدم وإن دعاء الشعب الإيراني ساهم في تحقيق هذا النجاح. ورأى خامنئي أنه "يمكن أن يكون هذا أساساً لمزيد من الخطوات الذكية"، وأضاف: "دون شك فإن فضل الله ودعاء الشعب الإيراني عامل في هذا النجاح".
وفي وقتٍ رحبت مصر وسوريا ودولة الامارات العربية المتحدة والبحرين بالاتفاق، واعترض عليه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو باعتباره "خطأ تاريخيًا"، لاذت دولٌ أخرى بالصمت، ومنها المملكة العربية السعودية التي اعتبرها البعض من "المتضررين"، ليخرق صمتها تصريحٌ يتيمٌ لرئيس مجلس الشورى السعودي عبد الله العسكر اعتبر فيه أن "النوم سيجافي سكان منطقة الشرق الأوسط بعد الاتفاق"، لافتا إلى أنه "ليس لديه علم برد حكومة بلاده الرسمي لكنه يشعر بالقلق شخصيا"، مشيرًا إلى أنّ "حكومة ايران أثبتت الشهر تلو الشهر أن لديها أجندة قبيحة في المنطقة"، على حدّ تعبيره.
لبنان يتبرّأ من الإنتحاريَّين!
إلى لبنان، الذي عاد الهمّ الأمني ليسيطر على ما عداه بعيد الإنفجار الإرهابي الأخير الذي استهدف محيط السفارة الإيرانية في بيروت، حيث لم يكد لبنان الرسمي والشعبي يستفيق من هول الجريمة، حتى باهتته حقيقة أنّ الإنتحاريَّين هما من البيئة اللبنانية، وأنّ أحدهما لبناني من مدينة صيدا فيما الثاني فلسطيني تقيم عائلته في الزهراني جنوب صيدا، وأنّ ما يجمعهما هو "قربُهما" من بيئة أحمد الأسير، الذي خاض الجيش اللبناني معارك معه، مُنهيًا "ظاهرته الأمنية" قبل فترة.
وسط ذلك، لم يعد الحديث عن "القاعدة" مثارَ جدل بل إنه لم يعد بمقدور أحد أن يُنكره، وهو ما عاد وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال فايز غصن وأكّده، في حديث تلفزيوني، حيث لفت إلى أنّ هذا الوضع موجود ونواجهه وخاصة مديرية المخابرات واكبر برهان العثور على السيارة التي كانت مجهزة بنحو 350 كيلوغراما"، محذرًا من "اننا وصلنا الى مرحلة صعبة والبلد أصبح على شفير خطير".
وفيما كشف وزير الدفاع عن احتمال وجود "شخص ثالث" متورّط في جريمةالجناح، لافتًا إلى أنّ العملية نتيجة عمل استخباراتي دقيق، مشدّدًا على أنّ من ارتكب هذه الجريمة ليس من الهواة، لفت ما نقلته صحيفة "الأخبار" عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لجهة قوله ان عملية استهداف السفارة الايرانية "تم التخطيط لها بعناية فائقة"، وأن المخططين "يعرفون مبنى السفارة حجراً حجراً". وبحسب الصحيفة، فقد اعتبر السيد نصرالله أنّ السفير الإيراني غضنفر ركن آبادي "كان المستهدف لشخصه ورمزيته"، وأكد أن نوعية المتفجرات التي استخدمت في الاعتداء "جديدة"، مشيراً إلى أن التفجيرات السابقة "كانت تستهدف حصد العدد الأكبر من الأرواح، لكنها في المرة الأخيرة كانت تستهدف التسبب بأكبر قدر من الدمار". وتوقّع أن "تستمر هذه العمليات"، لافتاً إلى أنها عبارة عن "تعويض عن الانتكاسات التي مني بها المحور المعادي في أكثر من ملف، وخصوصاً سوريا".
كلمة أخيرة..
لا شكّ أنّ الاتفاق الغربي الايراني فتح مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، ولا شكّ أنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة "اختبار للنوايا"، خصوصًا في ظلّ التشكيك الكبير بـ"حُسنِها" من الجانبَين..
ويبقى الأهم من هذا الاتفاق انعكاسه على المنطقة، فـ"المكاسب" التي حققها هذا الاتفاق يجب أن تُترجَم عمليًا أقله إنهاءً لحالة التوتر القائمة على أكثر من صعيد، وهنا فقط يكمن "الاستثمار الصحي" له، وهو ما ستتكفل الأسابيع والأشهر المقبلة بإيضاحه..