أخطر ما نتج عن اتفاق الطائف الذي استحال دستوراً في ظل ظروف قاهرة واستثنائية وضاغطة على نصف اللبنانيين، انّه صار بحكم الواقع وثيقة إقرار بالخسارة والتخسير، دفع المسيحيون ثمنها من كيانيّتهم السياسية وحريّتهم الوجودية، فقدوا زخم دورهم الأصيل وخبا نور فعلهم، وغابت تأثيرات صلاحيتهم الدستورية، نصّاً وعرفاً وتقليداً، ولم يبقَ لهم غير المجاملات وطنياً، والتسويات دولياً، والتقلّب بين كيان سياسي سنّي وكيان سياسي شيعي، كلاهما يسعى الى ان يكون هو الوطن أو أن يكون الوطن له..!
وفي ظل ثنائية غياب المسيحيين وتغييبهم عن محورية الدور وطنياً وحضوراً، عاش لبنان حالة اختلال وزن، ضاعت معها الرؤى والانتظارات، لأنهم سكتوا على ظلم، واستسلموا للغلبة، وناموا في ظلمة الكهف، خائفين من ممارسة حقهم بأن يحملوا " أنهم سيبقون لبنانيين، وأنهم باقون من أجل كل لبنان...!"
إن الطقوسيات الترويجية، التي وُضِعَت استراتيجيتّها من أجل إقصاء سياسي للمسيحيين، من خلال تحجيم دورهم ونزع الصلاحيات من رئيس الجمهورية، تمهيداً أو سعياً لإعادة تشكيل صورة لبنان على مقاسات جديدة، تحت شعارات داخلية، صيغت بأسلوبيات خارجية، وكأن المطلوب تهريب صيغة جديدة لهذا الوطن، في ظل فوضى سياسية ونزاعات أمنية، تمّ استغلالها بإحترافية محكمة لإتمام صفقة اغتيال الصيغة الوفاقية والميثاقية، في ظروف قاهرة، غاب فيها التوازن والتكافؤ، ورُفع فيها شعار "التعاسة للخاسر".
والفريق الخاسر عسكرياً هو نفسه الخاسر سياسيّاً، أي المسيحيون الذي كان عليهم أن يوقّع بعض زعمائهم على صك التنازل عن السلطة وأن يمهروا بالدم براءة التّنحّي عن مسؤولية الحكم وقيادة البلاد، بعد ثمانية وأربعين سنة من رئاسة الدولة وليس القبض على الدولة، (بين 1943 تاريخ الاستقلال و1991 تاريخ الطائف)، تخلّلتها سنوات من الأزمات والحروب التي وسمت العهد الماروني في قيادة الدولة بالأساس، بالاستقرار الدائم، والتفجّر الموسمي، والنظام الهش، بفعل عوامل التشكيك وعدم الثقة بين مكوّنات البلد، التي عملت جهات وتنظيمات خارجية لإستثمارها من أجل خلق بؤر توتّر وحقول صدام دائم، وتهيئة الساحة اللبنانية وجعلها أكثر طواعية وقابلية لتقبّل حلّ القضية الفلسطينية على حساب لبنان الوطن التعدّدي والمتنوّع الدي هو الكيان الحضاري والروحي، والذي يشكّل بتكوينه تحدّياً صريحاً لعنصرية اسرائيل وفلسفة إنشائها ووظيفتها التفتيتية.
xxxxxxxxxxxxx
الآن، وبعد مرور أكثر من عقدين من عمر الوطن على اتفاق الطائف، يمكن ان نرى بنقاوة، ان الاعتراضات البنيوية على الصيغة المفروضة أو المهرّبة جاءت من قادة وسياسيين ومفكّرين رأوا في الاتفاق شوائب وأخطاء وخطايا، من شأن التغاضي عن الكلام فيها وعنها، الإضرار بلبنان وبطبيعة العلاقة الترابطية بين ابنائه وعناصره التكوينية، كمجتمع متكامل، فالمؤلفات والمطالعات الكتابية والندوات النقاشية والتصريحات السياسية والمواقف المرجعية الرافضة والناقدة للمراحل التي هيّأت " للطائف" والظروف التي انتجته وإساءة التطبيق والخروج عن الروحية اللبنانية الجامعة، أكّدت على ان الانقلابات على روحية النصّ واغتيال صدقية النيّات، تركت اثاراً سلبية على شرحة كبيرة من اللبنانيين الذين رأوا فيه غبناً موصوفاً وافخاخاً قاتلة، وإضعافاً لشراكة المسيحيين ودورهم، بحيث تبدّل دورهم من (الريادة والقيادة) الى (التبعيّة المطلقة). ومن شأن رصد الانتقادات البنيوية التي قدّمها عارفون بالأمر ان تكشف مكامن الخطأ الذي نعيشه منذ عشرين عاماً.
كثيرون من اللبنانيين، الغيورين على صورة لبنان وليس على جغرافية فقط، يدركون بألم ان الإمعان بالخروج على روحية الطائف، وتحريم الكلام المناقد حوله، هو مدخل الى ظلمة الأعماق التي سيموت فيها لبنان الصورة الكيانية، ولبنان التكاملي ولبنان النوعي، لحساب لبنان الأحادي والفئوي الذي سيكون في منظومة الكيانات العنصرية والطائفية التي ستتوزّعها جغرافية المنطقة، وفق جدول أعمال (الشرق الأوسط الجديد).
هذه الخواطر التي ترتكز الى غيرة واضحة لإعادة تصويب النظرة الى لبنان، خارج دائرة المناضلات والاستثناءات، تدفع الى طرح هواجس صلبة تعتمل في وجدان كل حريص على كرامة العيش الحرّ ، والتلاقي التفاعلي بين اللبنانيين على قاعدة المسؤولية المتوازنة في حبّ لبنان وصراحة الولاء الفعلي له. وابرز هذه الهواجس:
1- لماذا صار المسيحيون خارج الإدارة في المواقع القيادية والمراكز الفاعلة؟
وهنا نقول " مسيحيون خارج الادارة، مسيحيون خارج الوطن" مع ما يعنيه ذلك ما توفّره الوظيفة اللرسمية للمواطن من استقرار وامان وتجذّر بالأرض والوطن.
2- لماذا صار المسيحيون خارج المدن؟
لم يعد للمسيحيين دور ولا ظهور ولا وجود مجتمعي في المدن اللبنانية، بإستثناء مدينة زحلة، وهذه ظاهرة تتآكل حضورهم، الذي لم يعد مقتصراً الأعلى وجود الكنائس ودور العبادة.
والسؤال الأساس هو (مَنْ يعيدُ المسيحيين الى مدنهم؟)
3- المسيحيون والأرض
الأرض بالنسبة للمسيحيين هي انتماء والتزام. وأيْ فقد لهذين العنصرين يعرّض الشعور بالمواطنة لإهتزاز وخوف عميقين، ينعكسان على الإحساس بالدونية والذمية.
والمطلوب ان تحمي الدولة الملكيات الخاصة والعامة، وان تباشر بتحرير مشاعات وفرزها واعطاء الحقوق لإصحابها. وتوفير الحماية لهم.
وعلاقة المسيحيين بالأرض هي علاقة انتشارية موزعة على كامل الخريطة اللبنانية، ولا يمكن حصرها في منطقة محدّدة.
فقوة المسيحيين اللبنانيين هي بإنتشاريّتهم وتفاعلهم مع كل الطوائف.
ان الخوف على لبنان يعظم اكثر مع عدم تشجيع المسيحيين لعودتهم الى قراهم وحمايتهم وتوفير كل مقومات الحريّة لهم. اذّاك يفقد لبنان صيغته التفاعلية والنوعية.
4- فقدان الثقة بالدولة:
ان شعور المسيحيين بأنهم غير محميين او مستهدفين، يفقدهم الأمل والذخم لمتابعة دورهم الوطني ورسالتهم الإيمانية والحضارية.
المطلوب اعادة ترميم الثقة المفقودة واعادة بناء الثقة بالنفس، حتى يتمكنوا من متابعة العيش والحضور وحماية وجودهم في ظل سقوط مفاهيم العلمانية والدولة المدنية لحساب الأصوليات والتطرّف الديني.
والسؤال هو، مَنْ القادر على إقناع المسيحيين بأن الدولة فعلاً هي دولتهم، بمعنى انها لهم وليسَتْ عليهم؟
* الدكتور جورج كلاس هو عميد كلية الاعلام منذ العام 2009، وكان قد شغل منصب مدير الفرع الثاني لكلية الاعلام بين العامين 1999 و2005، ومدير عام الأبحاث والدراسات في مجلس النواب بين العامين 2005 و2006. من مؤلفاته: "الصحافة الفكرية" عن دار النهار (1994)، "الصحافة السنوية: نشأتها وتطورها" عن دار الجيل (1996)، "الدليل الى الاعلام الثقافي والفني" عن الجامعة اللبنانية (2005)، "الاعلام الديني" عن الجامعة اللبنانية (2012) وغيرها.