تحتل طبخة الهريسة مكانة رفيعة المستوى عند أبناء الطائفة الشيعية في جنوب لبنان تكاد تصل إلى حدّ المباركة نظرا لمواكبتها الشعائر التي ترافق أيام عاشوراء في كل عام والتي تتلازم مع الحداد على الإمام الحسين وآل بيته، وتستمرّ حتى ذكرى الأربعين لاستشهاده.
هكذا، كيفما تجوّلت اليوم في قرى وبلدات الجنوب ومدنه، تستوقفك مواقد تسطع بنارها تحت قدور حديدية تطبخ فيها "الهريسة"، لتوزع عند الانتهاء من الطبخة على أبناء البلدة أو القرية أو المدينة أو الحي وذلك عن روح الامام الحسين وال بيته ومجانا وتيمنا بالتبريك أو النذور التي يحرص الجنوبيون على تقديمها في عاشوراء وحتى أربعين الامام الحسين.
وإذا كان هذا الطعام اللذيذ يتجلبب بطابع العطاء للفقراء الذين يتلقونه مجدّدًا، وكذلك الأجر الرباني الذي يحصل عليه كلّ من يساهم فيه وكلّ من يسعى في تقديم العون سواء في إيقاذ شعلة تحته أو تحريكه في قدوره الضخمة المصنوعة من نحاس سميك يُعرف أحدها عند الجنوبيين باسم "الدست" ويعني في اللغة الفصيحة "المهراس"، أو حتى في توزيعه على المنازل والدور القريبة والبعيدة، فإنّه في الوقت عينه يحمل الدسم والغنى في تركيبته التي تعتمد في درجةٍ أولى على اللحم والدجاج والقمح المقشور والسمنة أو الزبدة النباتية.
وتحتاج الهريسة الى ساعات طوال حتى تصبح صالحة للأكل، تنتشر فيها النساء المتشحات بالسواد حول الدست "يهرسن" بملاعقهن الخشبية الكبيرة خليط المادة المغلية فوق نيران المواقد كي لا تلذعها حرارة النيران، ويأتي طبخ الهريسة في كثير من الاحيان نتيجة نذور يحبَّذ إيفاؤها في أيام عاشوراء ويتحمل تكلفتها الميسورون والفقراء على حد سواء ويشارك فيها الاقارب والجيران.
وفي حديث لـ"النشرة"، يلفت الباحث والمؤرخ الجنوبي محمد حسين معلم إلى أنّ بلدة كفررمان توارثت طبخة الهريسة من جيلٍ إلى جيل وما زالت تحافظ عليها لمباركتها مع عاشوراء حتى أربعينية استشهاد الإمام الحسين، ويتحدّث عن عادة سنوية في البلدة تقوم على مبادرة من أهلها وفاعلياتها البلدية والسياسية والحزبية عبر دعوةٍ شعبية يشارك فيها المئات من أبناء البلدة ونسائها وعلمائها الذين يرتدون جميعًا الثياب السوداء وينتظمون جماعاتٍ وفرادى حول 15 "دستًا" يتمّ وضعها على مواقد من حديد في صف طويل أمام النادي الحسيني وسط الساحة العامة، ثم يستمر الطبخ فيها من الصباح حتى المساء، لتوزَّع بعدها " الهريسة " على جميع منازل البلدة في خطوة لا مثيل لها وقد تحوّلت تقليدا سنويا ينتظره الكبير والصغير.
من جهته، يوضح رئيس بلدية زبدين محمد قبيسي لـ"النشرة" أنّ البلدية، بالتعاون مع لجنة الوقف فيها ومختلف الفاعليات السياسية والحزبية والاندية والجمعيات والاهالي، تنظّم سنويا طبخة الهريسة في ساحة البلدة مواكبة لعاشوراء ووفاء منها لال البيت ودورهم العظيم في التاريخ. ويقوم المشاركون بإعداد في قدور نحاسية تتجاوز العشرين، ويتمّ في النهاية توزيعها على كلّ العائلات في البلدة من قبل شبّان وفتيات يزورون البيوت في عادةٍ متوارثة عن الآباء والأجداد. ويقول قبيسي: "نحرص في البلدية ولجنة الوقف على إتمام هذه الأعراف والتقاليد الموروثة خلال مراسم عاشوراء وحتى أربعين استشهاد الامام الحسين والتي فيها بركة وأجر لا يعادله أي أجر أخر في الدنيا وفي الاخرة". ويشدّد على أنّ "عاشوراء ثورة التاريخ عبر القرون وثورة الاحرار في الوجدان والضمائر وهي لا تنتهي بانتهاء أيام الذكرى بل تمتد في الاعماق وتتجذر في القلوب طالما ما بقي الزمان والايام".