في قلب تلك العاصفة التي يصرّ البعض على تسميتها ربيعاً عربياً، يقبع المسيحيون المشرقيون في خيم "الخوف والترقب". فهم باتوا يشعرون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأنهم متروكون من العالم كلّه، وخصوصاً من البلدان التي كانت تحميهم أيّام الشدّة، وينتظرون دوراً ما، أو أي شيء، يطمئنهم إلى بقائهم رغم وجودهم وسط أنيابٍ حادة تريد إلتهام هذا الوجود وجعله مجرّد صفحة في كتاب تاريخ بأفضل الأحوال.
لكن هذا الإنتظار لم يعد سلبياً. فها هم يتحركون، يقيمون مؤتمرات، يرسلون وفوداً لإجراء مباحثات دبلوماسية، يسعون للخروج من هذا الكابوس بـ"التي هي أحسن"، متحدين تحت هويتهم المشرقية بغض النظر عن طوائفهم. إلا أنهم يدركون جيداً أن ما يجري اليوم في المنطقة لا يمكن مواجهته ببعض التحركات من هنا وهناك، بل يحتاج لدعم من أي "قوّة عظمى"، لا تمنح سفنها لتهجيرهم بل تسعى حقاً لإبقائهم في أرضهم.
في هذا الإطار، يشرح مصدر كنسي لـ"النشرة" أن "الكل أدار ظهره لنا، ففرنسا لم تعد تهتم لوضع مسيحيي الشرق، والإبنة البكر للكنيسة الكاثوليكية تخلّت عن كثلكتها وباتت ترتدي ثياب الإلحاد أو ما تريد تسميته بـ"العلمنة"، والولايات المتحدة لا تهتمّ أساساً إلا بمصالحها، وحماية المسيحيين ليست من ضمن أولوياتها، لذلك نشعر اليوم أننا أكثر ضعفاً". لكن المصدر يرفض بشدّة وصف ما يجري اليوم بأنه اندثار للدور المسيحي، ويعتبر أن من يقول ذلك "لديه اندثار في رأسه فقط لأن المسيحيين لم يكونوا يوماً إلا خميرة في عجين هذا الشرق، وهم يحتاجون اليوم إلى تقوية إيمانهم الذي بات ضعيفاً، إذ إننا صمدنا 2000 سنة رغم كل الإضطهادات بسبب إيماننا القوي، ولا يجدر بنا أن يضعف هذا الايمان".
ويرى المصدر عبر "النشرة" أن "المسألة بحاجة إلى القليل من العزم والتحليل"، معتبراً أن "التعويل يجب أن يكون على الدعم الروسي والعلاقات مع روسيا لأن لهذا البلد حسا مسيحيا كبيرا، ولأنه يهتم بشكل خاص بمسيحيي الشرق اليوم". ويعيد المصدر الكنسي هذا الإهتمام "للصمود المسيحي الروسي بوجه الشيوعية، حيث أنها لم تتمكن من القضاء عليه، ولقرب روسيا من الشيشان".
وتجدر الإشارة إلى انه لوحظت خلال الشهرين الماضيين تحركات عدّة لوفود كنسية روسية رفيعة المستوى زارت الشرق ومن ثم انتقلت إلى الفاتيكان حاملة ملف مسيحيي الشرق إلى الكرسي الرسولي الذي بدوره كان قد أنشأ خلية أزمة خاصة لمتابعة أوضاعهم إثر موجة الهجرة المتعاظمة في المنطقة.
فخلال الشهر الماضي، زار مسؤول العلاقات الخارجية في الكنيسة الروسية المتروبوليت هيلاريون لبنان، وأمضى 48 ساعة فيه، التقى خلالها عدداً من المسؤولين السياسيين والكنسيين. وعلمت "النشرة" أنه، وخلال لقاءاته، أكد أن "المسيحيين في الشرق خطا أحمر وأن بلاده تريد الحفاظ على وجودهم". وقد تحدث باسم بطريرك موسكو وسائر روسيا. وخلال حفل أقيم على شرفه في زحلة، أعلن جهاراً تضامن الكنيسة الروسية "تضامناً كاملاً مع المسيحيين في هذه المنطقة".
وفي منتصف تشرين الثاني أيضاً، زار وفد كنسي روسي مؤلف من عدد من المطارنة و500 كاهن من مختلف الأبرشيات، و25 رئيسة دير ومجموعة من الرهبان والراهبات، القدس والأراضي المقدسة، للإطلاع على أوضاع المسيحيين هناك، رغم أن سبب الزيارة الرسمي كان يحمل في طابعه حفلاً كنسياً.
وفي تشرين الأول، زار وفد كنسي سوري روسيا، ضم عدداً من أساقفة خمس كنائس سورية، وذلك بعد دعوة وجهت له من بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل للإطلاع على تطور الأحداث في سوريا وعلى المساعدات التي يحتاجها الشعب السوري. ومنذ أشهر قليلة، زار وفد قبطي أيضاً الكنيسة الروسية في السياق عينه.
وكان نائب وزير الخارجية الروسية لشؤون الشرق الاوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف أبدى تخوّفه "على الوجود المسيحي في الشرق لا سيما بعد أحداث سوريا وقطر والعراق" في 9 أيلول الماضي وأشار الى أن "الكنيسة الروسية تتعاون مع كل الكنائس المشرقية لتطبيق ما تسعى اليه بلاده من "جهد فعال للمحافظة على التنوّع الحضاري والحوار بين الحضارات في الشرق وتتحدث مع جميع الشركاء الدوليين حول هذه النقطة". في وقت لم يغب هذا الشعور بالقلق أيضًا على مصير المسيحيين عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافرورف الّذي اعرب أثناء خطابه في جلسة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في 28 تشرين الثاني الماضي عن قلق بلاده على مصير المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط.
إذاً، لم يعد الحراك الروسي تحت الطاولة بل بات واضحاً إلى العلن. وهنا، تكشف مصادر مطّلعة لـ"النشرة"، أن المرحلة المقبلة ستشهد تعاظماً للدور الروسي في المنطقة بدءاً من لبنان باتجاه حماية المسيحيين، حيث سيتم انعقاد خلوة مسيحية شاملة برعاية روسية تجمع كل الزعماء المسيحيين للإتفاق على خارطة طريق للمستقبل القريب. وتوضح المصادر أن هذه الخلوة ستكون حلقة من سلسلة تحركات مسيحية ميدانية ستجري قريباً، بدءاً بتحركات أمام السفارة التركية للمطالبة بعودة الراهبات إلى دير معلولا وتحرير المطرانين المخطوفين "لأن الدور التركي في حماية الخاطفين لا يخفى على أحد"، بحسب المصادر التي تكشف أيضاً عن مظاهرات سيشهدها لبنان بعد عيد الميلاد دعماً للمرجعيات الدينية.
تفريغ المسيحيين من الشرق لم يعد فزّاعة ولا "خبرية"، بل بات أمراً واقعاً في مصر والعراق مروراً بفلسطين وسوريا، والأعين باتت مسلّطة اليوم على لبنان "الوطن الرسالة" لضخّ الدم من جديد في شرايين الكيان المسيحي المشرقي، علّه يبقى ولا يستسلم إلى حالة الغيبوبة التي وُضع فيها.