5 أيام في اسطنبول كانت كافية لأرى الصورة من منظار مختلف، فلا الشعب التركي عبارة عن "نور" و"مهند" و"يحيى"، ولا "السلطان وحريمه" في حديث المقاهي، ولا التطرف الذي ينقله الإعلام.. في اسطنبول معظم الحديث يذكّر بالثورة وحق التعبير.. في اسطنبول لا يتحدث الجميع عن ميدان التحرير وأخيه "رابعة"، إنما الحدث الأبرز هو ميدان تقسيم وشهداء تقسيم ومعتقلو التظاهرات التي أرعبت أردوغان وجعلته يردد عبارة الزعماء العرب الخالدة: "مؤامرة خارجية".
في اسطنبول ينشط اليساريون، ويتحرك الوطنيون واليمينيون والاشتراكيون من أجل الحفاظ على الدولة المدنية التي بناها أجدادهم بالعرق والدم والفكر والنضال.. في اسطنبول لا يعرف الناس بـ"المجلس الانتقالي" للمعارضة السورية، ولا يدرون أن أضخم فنادق المدينة تضم العديد منهم على حساب دافعي الضرائب، وليس من حساب "حزب العدالة".. في اسطنبول يجتمع العلماني مع الإسلامي المعتدل على حق الشعوب، بما فيهم سورية، بتغيير قياداتها عن طريق الحراك السلمي، وليس من خلال جز الرؤوس وشي الأعضاء واختطاف الراهبات.. في اسطنبول هناك المئات من الفقراء السوريين يطلبون المعونة من المارة في ظل البرد القارس.. تتغير النظرة عن المدينة حينما تسمع وتشاهد بنفسك، وهذه المرة سمعت وفهمت الكثير، فيساريّوها مهووسون بالعداء للإمبريالية العالمية جهاراً ونهاراً، في وقت يتسابق أصحاب الدكاكين "المتأسلمون" لخطب ودّ أميركا و"إسرائيل".. في اسطنبول انهزم مشروع أردوغان بتحويل حديقة "جزي بارك" إلى مبانٍ تُعطى لليهود، وتغلبت الأشجار على البنادق كما تغلبت قبلها إرادة الشباب على لوبيات المال والسياسة والقتل.
اسطنبول عاصمة العثمانيين الدائمة ترفض العودة من جديد إلى بيت الطاعة، وتكون من بين حريم السلطان الجديد.. في اسطنبول لا يعرفون أن الذي يهدد الناس ويخوّفهم من الكرد هو ذاته الذي يعقد معهم صفقات نفط في الجانب العراقي.. في مدينة المساجد؛ اسطنبول، المعارضة فقيرة ومطارَدة، لكنها صادقة مع نفسها ومسلمة بقدرتها، ورغم قلة إمكانياتها المادية والمعنوية، إلا أنها تستهويني أكثر من قصور السلطان..
قضيت خمسة أيام في اسطنبول، في اجتماعات ولقاءات صحفية وندوات جماهيرية وشبابية وأدبية يرافقني شباب حالمون بالحياة الكريمة، لا يسألون عن ديني وطائفتي وقوميتي، بل يسألونني عن العراق، ويتأسفون لما حلّ بشعبه، لا يقفون مع طائفة ضد أخرى أو جهة سياسية معيّنة، بل ينشدون آلام الشعب الجريح..
عذراً اسطنبول إن صدّقنا إعلامهم بأنك مدينة لا تقبل بالآخر، وشكراً لك لأنك كشفتِ لنا كثيراً من الزيف والطلاء، كشفته لنا وكشفته عنك..
اسطنبول مدينة السلام والمحبة والأخوة، وليست مدينة "الإخوان" والتحريض.