سئم اللبنانيون من الإعتداءات السافرة على أملاكهم البحرية من قبل زعمائهم السياسيين، أو على الأقل بدعم منهم. سئموا من رؤيتهم للبحر عن شرفاتهم الساحلية دون التمكن من التمتع به إلا بعد دفع الأموال الباهظة. سئموا أيضاً من الحديث عن هذا الموضوع حتى نسوا أن البحر حق لهم ورماله كرمال أرض الوطن، غالية جداً على قلبهم. وحده شاطئ صور، الشاطئ الرملي الأطول في لبنان، الوحيد والأخير المفتوح للجميع، صامد بوجه هذه الإعتداءات بعد تحوله إلى محمية في اواخر تسعينات القرن الماضي. إلا أنه، ومنذ بضعة أسابيع، بدأ الحديث عن خطر يتعرض له هذا الشاطئ، إذ أن أبناء المدينة علموا بوجود مشروع لسحب الرمول من "استراحة صور السياحية" لقاء أموال للدولة اللبنانية بناء على طلب الإستراحة، مما أدى إلى إنطلاق حملة رفضاً لذلك.
"كل شيء فيه مخيف"
فاستراحة صور التابعة لوزارة السياحة والتي تستثمرها جهة خاصة بناء لعقد بين الجانبين، كانت قد أنشأت كواسر للموج لحماية المستجمين، ومن الطبيعي نتيجة هذه الكواسر، أن تتجمع الرمال داخلها، فأصبح حوض السباحة معطلاً، ولذلك تقدمت إدارتها برسالة عام 2009 إلى وزارة السياحة تطلب فيها تنظيف الحوض من الرمول. فراسل وزير السياحة وزارة النقل "ونام الملف إلى أن استفاق منذ مدة"، بحسب رئيس بلدية صور المهندس حسن دبوق، "فتم إجراء مزايدة من قبل الشركات المؤهلة للقيام بهذا العمل ورست المزايدة على المتعهد جهاد العرب".
ووفق ما يؤكد دبوق لـ"النشرة"، فإن الإختلاف في وجهة النظر بين البلدية ووزارة الأشغال بدأ من هنا، شارحاً انه "بالنسبة للوزارة، فإن هذه الشركة ستدفع الأموال للدولة لأنها ستسفيد من هذا الرمل الذي ستسحبه من الإستراحة، وستبيعه أو تستخدمه لأي غاية أخرى، أما نحن فنرفض بيع رمل صور". ويتابع: "بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا للمبدأ، فإن الكمية التي عرضت للمزايدة كبيرة جداً، وتبلغ 125 ألف متراً مكعباً، فيما أن الكمية الفعلية بأقصى الحالات لا يجوز أن تتجاوز الـ45 ألف متر، إذا أخذنا في الإعتبار مساحة الإستراحة"، معتبراً أن "كل شيء مخيف بهذا الأمر. فنحن لا نعرف على أي أساس تم طرح هذه الأرقام من قبل وزارة النقل، ولم يتم إطلاعنا على أي دراسة فنية أو دراسة للجدوى الإقتصادية أو دراسة للأثر البيئي خصوصاً لأنه يحدها محمية شاطئ صور".
وكيف لا تخاف بلدية صور ومعاناتها من سرقة الشاطئ في ثمانينات القرن الماضي لم تنته تداعياتها بعد؟ فلشفط الرمول تاريخ أسود في الذاكرة الصورية، حيث تم سحب بين 350 شاحنة إلى 400 شاحنة يومياً من الرمول نحو كل المناطق اللبنانية، وفق دبوق، مذكراً بأن "رمل صور رمل بحري لا يقارن في خلطات الباطون مع الرمل الجبلي في حال غسل، ولذلك يتهافت عليه الجميع".
ويعبّر عن رفضه لإستنزاف الشاطئ، مطالباً "بنقل الرمول إلى المنطقة الجنوبية، من حيث أتت". هذا ما يطالب به أيضاً مدير مجموعة "يا صور" هيثم شعبان، معتبراً أنه "إذا كان المطلوب هو التنظيف لماذا إذا يريدون شفط الرمول بدلاً من ضخّها في البحر من جديد؟". ويذكر بأن أمراً مشابهاً حدث في مارينا شكا، فوقف الأهالي بوجه مشروع شفط الرمول وانقضت الأمور بعملية تنظيف وضخ، متسائلاً: "هل كلما تجمعت رمول في المرافئ يتم اللجوء إلى بيعها؟".
ويشدد على أن "المسألة ليست مكلفة للدولة اللبنانية، وعلى أي حال، فإن أحد المغتربين أراد أن يتبرع بضخها على حسابه الخاص".
وفق الأصول والمعايير!
أسابيع عدّة مرّت إذاً على كل ما يتم تداوله في صور وفي الوسائل الإعلامية حول هذا الموضوع ووزارة الأشغال لم تدخل في الردّ على ذلك، حتى وافق مدير عام الوزارة عبد الحفيظ القيسي أن يوضح لـ"النشرة" ما يتعلّق بهذا الملف بناءً على دفتر الشروط الذي على أساسه تمت المزايدة.
ففي هذا السياق، يشير ان الحديث عن كميات كبيرة وصغيرة هو مجرد كلام إذا إنه لا يصار إلى تحديدها "من راسنا"، مشدداً على ان "برنامج Software خاص هو الذي حدد كمية الرمول التي يجدر سحبها وهي التالية: 114650 متراً مكعباً تحت الماء، و6700 متراً مكعباً فوق الماء"، مشدداً على "أننا نعمل وفقاً للمعايير الهندسية ونطلب من مكتب استشاري رفعاً مساحياً لمنطقة عملنا الواقعة مقابل استراحة صور وحدودها كاسر الموج فقط لا غير".
ويشير إلى أن "هدف الدولة اللبنانية تسهيل أمور الناس لا بيع الرمول. فعملية تفعيل عمل الإستراحة واجب للدولة اللبنانية لأنها تابعة لوزارة السياحة وتدخل إيراداً للخزينة. ثانياً، هذا الرمل المجمّع بين كاسري الموج هو رمل دخيل والدولة يمكنها أن تستفيد منه عبر بيعه". وعن المغترب المستعد للتبرع بالأموال لإعادة ضخ الرمل في البحر، كون الدولة اللبنانية لا إمكانيات لديها لتحمل هذه التكاليف، يقول: "أين هو هذا المغترب؟ فليقدم هبة للدولة اللبنانية، وذلك يكون وفقاً لأصول محدّدة".
ويؤكد أن أي كتاب لم يصله من بلدية "صور" حتى الساعة رفضاً للمشروع.
السير بالمشروع "آخر همنا"
ينتقد مدير عام وزارة الأشغال ما نشرته وسائل الإعلام إذ إنه يبدو وكأن عملية الشفط بدأت، وهذا لم يحصل. وهذا ما يؤكده أيضاً رئيس البلدية. ويشرح القيسي أين وصل هذا المشروع، قائلاً: "المزايدة تمت في إدارة المناقصات وهو جهاز تابع للتفتيش المركزي، ومن ثم اتجهت النتيجة إلى ديوان المحاسبة، حيث ما زالت موجودة حتى اليوم. إذا رفضها تنتهي المسألة، هو يدرسها على الصعيد المالي. وبعد موافقة ديوان المحاسبة، نطلب من المتعهد دفع السعر المتفق عليه في المالية والإتيان بإيصال بانه دفع كل المبلغ، بعد ذلك، نطلب منه دراسة تقييم الأثر البيئي وهذا موجود في دفتر الشروط في المادة 30 منه. ومن ثم يتم تحويل الدراسة إلى وزارة البيئة لكي توافق عليها أو ترفضها أو تعدلها خلال 15 يوماً". ويتابع: "لا مباشرة في العمل إلا بعد موافقة وزارة البيئة، إذ إن المحافظة على البيئة أولى أولياتنا. فنحن حريصون عليها أكثر من أي شخص يتحدث من منطلق بيئي، فلدينا كل الإجراءات التي تحفظ السلامة البيئية في البحر ونحن نعطي دروساً بذلك".
ويوضح أنه "وخلال قيام المتعهد بدراسة الأثر البيئي سنقوم نحن بالإتفاق مع جهاز إستشاري خاص، مشهود له، بإبرام عقد للإشراف 24 على 24 على المشروع، حتى لو أن دوام العمل من الفجر للغروب لكن الحراسة على العمل هي لمدة 24 ساعة. نحن ندفع للشركة لقاء الخدمات التي تقوم بها: مراقبة الأشغال، حماية الموقع.
ويكون لدى الإستشاري دفتراً مع بونات، يسجل عليه حركة الشاحنات، ويقدم تقريراً فيها. وعلى دفتر الورشة يوضع كل الحركات التي تمت: النهار والساعة، الحمولة، اسم السائق ورقم الشاحنة...".
لكن شعبان يشكك في إمكانية مراقبة هذه الكميات الكبيرة التي تقدّر بحمولة 6500 شاحنة، معتبراً أنها "بحد ذاتها هي مخالفة". ويرى أنه إذا تمت هذه العملية "فنحن بذلك نعرض سلامة المدينة بكاملها للغرق لأن هناك مبان مشيّدة بقرب الشاطئ، فهناك مخاطر جيولوجية كبيرة. وما زلنا نعاني من شفط الرمول الذي جرى في الثمانينات: فقد تغيرت التيارات البحرية، وبات هناك حفر في البحر يغرق فيها الناس".
أما القيسي فيشدد على أنه إذا كان هناك أي ضرر على البيئة فسيظهر ذلك في دراسة تقييم الأثر البيئي، وإذا ظهرت أي مخاطر فلن نسير بالمشروع.
ويقول: "نحن مقتنعون بأننا نقوم بواجبنا بطريقة سليمة وصحيحة". ويتابع: "آخر همنا أن نسير بالمشروع إذا كان الأهالي في صور لا يريدون. ومن الأساس لم نكن نريد القيام به لأننا نعلم أنه سيسبب لنا وجعة راس".
شفط الرمول يؤدي لإنهيار الشاطئ؟
ينتقد رئيس بلدية صور طريقة اتخاذ القرار "باستعجال وفوقية ودون استشارة السلطة المحلية"، مشيراً إلى أن "هذا المشروع يؤثر مباشرة على المدينة فليس بهذه الطريقة يتم التعامل به. ولا يجوز فرض المشاريع علينا". أما القيسي فيؤكد أن "لا ضرورة لإستشارة البلدية لأن الملف يقع ضمن صلاحيتنا ومهامنا".
وليست البلدية الجهة الوحيدة المتخوفة من المشروع، فهناك رفض شعبي له ورفض من قبل المجتمع المدني في المدينة، وخصوصاً وأن الإستراحة متاخمة لمحمية شاطئ صور الطبيعية. بحسب مديرها المهندس حسن حمزة، إذ أن "الإمتداد الطبيعي لشاطئ الإستراحة هو باتجاه الجنوب، أي شاطئ المحمية، وهو مصنف كأطول وأفضل وأجمل شاطئ في لبنان".
ويشير إلى أن "الإستراحة هي الحرم الطبيعي للمحمية، أي ضمن المنطقة المحرمة، ولا يمكن فصل ما يجري هناك عنها"، داعياً إلى جدية في إتمام دراسة تقييم الأثر البيئي لأنه "متى ما جرى الشفط، قد يؤدي ذلك إلى انهيار الشاطئ إذا لم يتم وفق الأصول العلمية". إلا أن القيسي فيشدد على أن لا خطر على المحمية لأن الكمية التي نريد سحبها هي رمل زائد، وعلى أي حال، فإنه يضع الكرة في ملعب وزارة البيئة التي ستحدد هي ما إذا كان هذا المشروع له أي ترتبات بيئية وأي ضرر بيئي، وبناء على ذلك يتخذ القرار.
حتى الساعة، لم يتم نقل حبّة رمل واحدة من شاطئ صور، ولكن، وإذا تم السير بهذا المشروع، فإن أقصى ما يتمناه المواطن الصوري هو عدم الإفراط بثروته بل مراقبة ما يجري بجدية لكي لا يسرق رمل شاطئه. وإذا كان لا بد من بيعه، فليكن ذلك حقاً وفق الشروط المحددة من الدولة اللبنانية ووفق الكمية المحددة من قبلها لا أكثر. فإن أزمة الثقة كبيرة بين المواطن اللبناني والمسؤولين عنه، على أمل ألا يسبب هذا الملف بتفاقمها بل على العكس.
تصوير بلال سلامة