يبشِّرنا المنجِّمون - ولو صدقوا - بأن لا حكومة... وبأنَّ الفراغ سيجتاح البلاد الى ما بَعْد بَعْد الحكومة، مع أنَّ البلاد بحكومة أو بغير حكومة تسير على بركات الله لا على بركات الحكم، وإنَّ عدم وجود حكومة قد يكون أجدى للخزينة وأنفع، فهو يحدُّ من الفساد الحكومي والإختلاس الشرعي.
البلاد ، منذ سنة 1975 على الأقل كانت في ظل كلّ الحكومات المتعاقبة تعيش في اللاّحكومة وفي الفراغ، وكان لبنان يعيش مع حكوماته وبها، بين محتلّ ومنْتَدب ومرتهن... الشارع فيه كان هو الحكومة، والحكومات التي كانت تولد بسرّ الوحي كانت أشبه بخصيان المدراء لا بفحول الوزراء، وكانت شرعية الشارع المرقَّط أقوى من شرعية السلطة الشرعية، على ما استشهد به الرئيس حافظ الأسد ذات يوم.
في عهد الوصاية، كانت الحكومة تولد عندنا برمْشة عينٍ سورية، وكانت العيون التي في طَرْفها حَورٌ تقْتُلُنا ولم تُحْيينَ قتلانا.
وبعد الإنحسار الظاهري لعهد الوصاية بقي لويس الثالث عشر عندنا مضطرب العقل معتلَّ الصحة، وظل يستبد بأمر السلطة كبير الوزراء الكاردينال "ريشليو"، ولا نزال شعباً مشرَّداً قاصراً ودولة معتلَّة الصحّـة والعقل، ولا يزال كبير الوزراء وصيّاً على الوزراء الصغار.
عندما نضع كل بيضات دجاجنا في سلَّة الآخرين، لا يعود عندنا لا حكومة ولا حكم ولا سلطة ولا شرعية ولا سياسة ولا سيادة ولا بيْض.
ودولة هي عضوٌ في الأمم المتحدة، لا تستطيع أن تؤلف حكومة إلا بتأثير جاذبية الوصاية وإرادة "الأبواب العالية"، والوفاق السوري - السعودي، والسعودي - الإيراني، والإيراني - الأميركي، والأميركي - الروسي، هي دولة ساقطة من قاموس الأمم، فيصبح من حقّ الأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) أن يكون وصيّاً عليها، يحضّ أشباه الزعماء اللبنانيين على: "تأليف حكومة وحماية لبنان من الحرب السورية والتقيد بمبادىء بـيان بعبدا".
ولن تُجْدي هذه الوصية الأممية التي هي أشبه بقراءة المزامير، ولن تتجرأ فرنسا مرّة بعد، على أن تدعو هؤلاء الزعماء الى (السان كلو 2) من أجل تأليف الحكومة.
ولا تأملنَّ بالوساطات العربية التي حمَلَتْ من قبْل إسم "الطائف" وإسم "الدوحة"، لتوحيد اللبنانيين حول وثيقة وفاق وطني أو لانتخاب رئيس، بعدما أصبحت هذه الوساطات أكثر حاجة هي الى "السان كلو" أو الى "السان فرنسيسكو" التي أُعْلِنَتْ فيها شرعة الأمم المتحدة.
ما دام هذا هو الواقع الذي عندنا وحولنا، والذي عند غيرنا وحوله، وما دامت الشرعية لا تزال خاضعة لشرعة الشارع، ولا يزال المسؤولون خاضعين لشرعة الإرتهان، سنظلّ نعاني فراغاً بعد فراغ، وستظلّ الدولة بلا بيض والأفواه مختومة بالشمع الأحمر، وبيضة القبيان الجنبلاطية لنْ تتمكن من كسر بيضة كولومبس لتقف على رأسها، وحتى يمنَّ الله على لبنان بربيع خلاصي، فالأمر عندنا سيّان، بحكومة أو بغير حكومة، بمَنْ يأتي أو بمَنْ يذهب، ولتكن حالنا شبيهة بما قاله الشاعر الهجَّاء "دِعْبل" في أحد الخلفاء العباسيين:
خليفةٌ مات لم يحزَنْ لهُ أحدٌ وآخرٌ قامَ لم يفْرحْ بهِ أحدُ.