لم يعد الحديث عن وجود تنظيم القاعدة في كل من تونس وليبيا مجرد حديث عابر عن مجموعات وخلايا نائمة، أو بضع عشرات، أو حتى مئات منها ، وإنما بات الحديث عن وجود حقيقي وفعلي لهذا التنظيم، فهو أصبح يملك جيشا يضم آلاف المقاتلين ويستحوذ على إمكانيات تسليحية كبيرة غنمها من مخازن الجيش الليبي الذي انهار بعد سقوط نظام معمر القذافي، ومعسكرات تدريب وتمتع ببيئة شعبية حاضنة، وكذلك بيئة سياسية مساعدة، إلى جانب بيئة الفوضى والانقسام، ولا يخفى أن تنامي قوة هذا التنظيم وظهوره إلى العلن كقوة قادرة على شن الهجمات وتمتعه بالنفوذ في الأحياء الشعبية
الفقيرة في اطراف المدن، وفي المناطق الريفية والنائية كان من نتاج ما سمي بالربيع العربي الذي اجتاح العديد من الدول العربية ومنها تونس وليبيا.
المؤشرات على تنامي قوة تنظيم القاعدة وازدياد نفوذه وتأثيره عكستها سلسلة الأحداث الأمنية والوقائع المتواترة التي جرت مؤخرا في انحاء مختلفة من تونس وليبيا، والتي تؤكد خطورة تنظيم القاعدة الذي يتخذ من أسم أنصار الشريعة ستارة للترويج لأفكاره والقيام باعماله الارهابية التخريبية.
وابرز هذه الأحداث والوقائع هي:
1ـ تصاعد موجة الهجمات والعمليات التي ينفذها انصار الشريعة ضد القوات العسكرية والأمنية والمسؤولين في كل من تونس وليبيا، وأهمها اختطاف رئيس الوزراء الليبي على زيدان تم إطلاق سراحه، وذلك احتجاجاً على زيارته لمصر، والتي اعتبرت بمثابة تأييد للإطاحة بالرئيس محمد مرسي، واغتيال مدير إدارة الشرطة العسكرية في رئاسة أركان الجيش الليبي في بنغازي، وحصول العديد من الاشتباكات، والمواجهات بين أنصار الشريعة وقوات الأمن التونسية، وأدت إلى مقتل العشرات من العناصر الإرهابية، وعدد من رجال الأمن، فيما فجر انتحاري نفسه في سوق العسكرية بيافع
بتونس اثر مواجهات بين أنصار الشرعية والقبائل في المنطقة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد احبط الجيش التونسي مخطط جماعة انصار الشريعة لاجتياح جنوب تونس، انطلاقاً من ليبيا بواسطة عشرة آلاف مقاتل، بينهم مرتزقة، على أن يتم التمهيد لذلك بتنفيذ سلسلة عمليات وتفجيرات في كل المدن التونسية لارباك القوى العسكرية والامنية وخلق الفوضى التي تتيح للمهاجمين تحقيق هدفهم في السيطرة على جنوب تونس.
2 ـ كشف منظمة المبادرة الوطنية التونسية عن وثيقة تؤكد تورط عبد الحكيم بلحاج زعيم الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية في الأعمال الإرهابية والاغتيالات السياسية في تونس وان عناصر من أنصار الشريعة في تونس تلقت تدريبات في ليبيا بإشراف هذه الجماعة وأن بلحاج متهم باغتيال عبد الفتاح يونس رئيس أركان جيش التحرير الليبي وبتسفير الشباب إلى سوريا بالتنسيق مع حركة النهضة.
3 ـ قيام كوماندوس أميركي باختطاف أبو أنس الليبي، احد قادة القاعدة المتهم بضلوعه في تفجير سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا عام 2004، وذلك من مدينة طرابلس وفي وضح النهار، وهو ما عكس مدى التغلغل الأميركي الأمني في ليبيا، وفي نفس الوقت أظهر بأن القاعدة باتت تقيم في ليبيا وتتمتع بحرية حركة كبيرة.
إن هذه الوقائع والأحداث، إنما تؤكد جملة من الأمور التي تستوجب التوقف عندها وهي:
الأمر الأول: إن ليبيا، وتونس تحولتا، بعد الربيع العربي، إلى تربة خصبة تنمو وتترعرع فيها التنظيمات المتطرفة، لا سيما تنظيم القاعدة، فمن جهة الفوضى المقيمة في ليبيا، رغم مرور أكثر عامين على سقوط نظام معمر القذافي، حيث الحكومة مجرد هيكل لا تقوى على الفعل وهي أسيرة سيطرة الجماعات المسلحة على الأرض، ومن جهة ثانية فان حكم حزب النهضة في تونس وفر الغطاء السياسي الرسمي لانصار الشريعة ( القاعدة) لزيادة نشاطها والتحرك بحرية غير مسبوقة والاقدام على تنفيذ عمليات اغتيال قيادات وطنية مثل البراهمي وبلعيد.
الأمر الثاني: بقدرما أن ليبيا وتونس باتتا ساحة سائبة لنشاط القاعدة وإخوانها فإنهما بالمقابل تحولتا إلى بلدين تتمتع فيهما المخابرات الاميركية بحرية حركة واسعة ونفوذ كبير تستطيع أن تنفذ أي عملية وبوضح النهار وتعتقل وتخطف من تشاء وساعة تشاء دون أن تتمكن أي قوة من اعتراضها.
الأمر الثالث: ما يحصل في ليبيا من هشاشة الوضع السياسي وتصاعد قوة ونفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي باتت منتشرة وتملك القدرات والإمكانيات على فرض سيطرتها في ظل غياب الدولة الليبية المفككة بعد سقوط نظام القذافي، والفوضى التونسية الناتجة عن الانقسام السياسي وعدم بناء دولة العدالة والتنمية بعد سقوط بن علي، إنما يندرج في سياق سياسة «الفوضى الخلاقة» التي تعتمدها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لإبقاء ليبيا وتونس في الفوضى وعدم الاستقرار لمنع أي تغيير في غير مصلحتهم، ولجعلهما فريسة سهلة لنهب ثروات ليبيا النفطية بأبشع
شروط الاستغلال من ناحية، وساحة لتصدير الإرهاب الى الدول المجاورة في إطار سياسة تعميم الفوضى الخلاقة باعتبارها السلاح الأمضى لأميركا ودول الغرب لإعادة رسم خارطة المنطقة وتركيب أنظمتها وفق مصالحهم، ومنع استقرار أي حكم غير مؤيد لسياساتهم.
الأمر الرابع: أن نمو التطرف الديني في تونس وليبيا، وتعزيز قوة أنصار الشريعة في الأحياء الشعبية سببه انتشار الفقر والحرمان والجهل والتخلف وغياب سياسات العدالة الاجتماعية والتنمية، ونجاح أنصار الشريعة في استغلال ذلك، والقيام باستقطاب الشباب عبر تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها من المساعدات للأسر الفقيرة، مما ساعدها على الترويج لأفكارها المتطرفة لا سيما الفكر الوهابي وإرسال آلاف المقاتلين إلى الدول العربية، وتجنيد الشباب والشابات في الجامعات والمساجد.
وهكذا يتضح أن ما يجري في تونس وليبيا من انتعاش لتنظيم القاعدة الإرهابي المعروف بصلته الوثيقة بالمخابرات الاميركية إنما يندرج في سياق العمل على إثارة الفوضى الهدامة وتصفية الرموز الوطنية والقومية المعادية للسياسات الاميركية، وتقويض مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسة العسكرية، والعمل على تصدير الإرهاب إلى كل الدول العربية التي تشكل أهدافا للسيطرة الاميركية، وإذا ما حصل وقامت المخابرات الاميركية بضرب قواعد للقاعدة، أو تصفية احد قياداتها فان ذلك يكون، إما لأن الأخير خرج عن المسار المرسوم من قبلها، أو لأن قيادات القاعدة
المرتبطين بالخطط بالمخابرات الأميركية غير قادرين على التحكم والسيطرة على قواعدهم بسبب توسعها وانتشارها، أو بهدف تعمية الرأي عن حقيقة العلاقة بينها وبين القاعدة، وجعل الاخيرة قادرة على كسب التأييد والتعاطف الشعبي معها، وفي هذه الحالة فان توجيه الضربات الاميركية لها، بين الفينة والاخرى، يوفر لها القدرة على الاستمرار في كسب التأييد، والمحافظة على تماسك صفوفها، ويوفر لقيادتها المصداقية لدى قواعدهم، الذين يصبحون أكثر طاعة في تنفيذ الاوامر والقيام بعمليات انتحارية وتفجير السيارات المفخخة. إنها لعبة جهنمية تستهدف اولا وأخيرا
المجتمعات العربية لتفكيكها وتطويعها بما يخدم المصالح الاميركية الغربية.