ينتظر الكبار والصغار اقتراب شهر كانون الأول وبعضهم يعدّ الأيام حتى يأتي عيد الميلاد الذي يعود كل سنة ليحمل الأمل والرجاء. فهو فرصة جديدة للتفكير بالآخرين وبالأقرباء وبالمحتاجين وللخروج من الأنانية والفردية التي بتنا غارقين فيها.
إلا أنّ هذا العيد يحمل في طياته غصّة بالنسبة لمئات العائلات المسيحية التي تعيش اليوم في حالة النزوح، تاركة أقرباءها وأملاكها كلها في سوريا، بحثاً عن بعض الأمن والحد الأدنى من شروط العيش بكرامة.
غصّة كبيرة
رغم الزينة المتواضعة في الشوارع، تغيب أجواء الإحتفالات الفضفاضة عن منازل النازحين السوريين إلى زحلة، حيث العدد الكبير من العائلات المسيحية. فإما لفقدان شخص قريب وإما لضيق الأحوال الإقتصادية وإما لغصّة البعد عن سائر الأقرباء والحنين إلى العودة، لن يكون عيد الميلاد لهذه العائلات هذه السنة إلا إحتفالا كنسياً.
فندى التي فقدت زوجها بسبب أزمة قلبية، وأتت من الحسكة مع أولادها الثلاث، إحداهم مقعدة، تخبر عن "صعوبة تركها أرضها وبلادها"، مشيرة إلى أنها في كل ليلة تشعر في الإختناق.
وتقول: "لا أريد لهذا العيد أن يأتي لأنني فقدت أغلى الأشخاص عليّ... كل الذكريات التي في بالنا اليوم تختصر حياة الخوف التي عشناها في السنوات الماضية"، وتضيف: "هذا العيد هو غصّة كبيرة".
أما ابنها جورج، الذي بات على حافة سنوات المراهقة، فيتذكر أن رأس السنة الماضية أمضوه على العتمة، بينما في السابق كانت العائلة تجتمع وكانت تجري احتفالات كبيرة.
وخلال زيارة العائلات السورية في زحلة، تستوقفك لهجة ليونيد ايساكوف السورية، رغم تأكيده أنه لبناني الجنسية. فهو اليوم، يعدّ مع زوجته وابنه من ضمن العائلات النازحة من سوريا كونه ترعرع هناك وعاش أكثر من 40 سنة في تلك الأرض.
يؤكد ليونيد أنه أتى إلى لبنان مع عائلته بعد خطف ابن الجيران، مشيراً إلى أنه "لا يملك شيئاً ليحزن عليه في سوريا، إلا أن غصّة العيد هي بكون أقربائنا بمهب الريح، ولا نعرف مصيرهم". لكنه يتنهد ويقول: "الحمد لله!"
لا "قرق عجوزي" هذا العام
ولكن رغم أوضاع "التعتير والشحار" التي دفعت بالسوريين للنزوح إلى لبنان، وفق ما يوضح الكاهن في مطرانية السريان الأرثوذكس الأب جورج، فإن ذلك "لا يمنعنا من تذكر احتفالاتنا الجميلة في سوريا".
ويخبر مبتسماً عن تقليد "قرق عجوزي" الذي تتنافس من خلاله العائلات المسيحية على إشعال النار أمام منزلها، فيربح الذي ترتفع النار أمام منزله أكثر. وهذا التقليد يرافق عيد الميلاد كعلامة على مجيء المخلّص والرجاء للبشر أجمعين.
ويشرح أن "الإحتفالات في سوريا اليوم هي ضمن الكنائس وليست كما كانت العادة في السابق... فقبل الأحداث، كان العيد رائعاً وكانت كل الناس تحتفل في الشوارع، أما اليوم فهي في القاعات الباردة".
فالأب جورج، أتى من سوريا إلى لبنان منذ 5 سنوات، وهو مطلع اليوم على حالة الخوف التي يمرّ بها أبناء بلاده في مختلف أنحاء سوريا. ويقول: الخوف ليس فقط في موسم العيد إنما في كل لحظة. فخلال القداديس، الحرس موجودون دائماً أمام الكنائس".
ليتنا نعود "نطقطق فتيش"...
ومع الأمن وحرية الممارسة الدينية التي يتمتعون بها في لبنان، فإن حالة النزوح تمنع البعض حتى من شراء أبسط علامات الزينة. فسونيا، التي أتت من القطنة بعد دفع الفدية لخاطفي زوجها وإطلاقه، والتي لا تعرف اليوم مصير شقيقها المخطوف، تستقبلك بابتسامة وبإيجابية، وترفض أن يتشح عيد الميلاد بالأسود رغم عدم قدرتها على شراء شجرة العيد والهدايا، وتقول: "الميلاد في قلبنا والأمل يأتي دائماً بالإحتفال في عيد ميلاد جديد".
ولكنها لا تخفي نوستالجيا العيد في سوريا، فتتابع: "ليتنا نعود إلى سوريا، نطقطق فتيش ونحتفل في الشوارع... كانت الناس تعيّد بعضها البعض عند منتصف الليل، وكنا نزيّن الشبابيك والشرفات. أما اليوم، فقد قتلوا كاهن منطقتنا فادي حداد، ومنذ ذلك الحين ونحن خائفون... عندما قتل كاهن رعيتنا شعرنا أننا مستهدفون".
وتستغرب سونيا كيف تغيّر كل شيء بين ليلة وأخرى، متذكرة الحياة التي عاشتها جنباً إلى جنب مع المسلمين. وتضيف: "لا أعرف من لعب برأس بعضهم لكي ينقلبوا علينا بهذه الطريقة... فقد عشنا 35 سنة جيران في تلك الحارة... أما الآن، فالجار انقلب على جاره".
رغم الغصّة الكبيرة الموجودة لدى العائلات السورية النازحة وعند تلك التي ستحتفل هذا العام أيضاً في قاعات الكنائس السورية فقط، تحثّ الكنيسة أبناءها على البقاء في أرضهم لكي لا يفرّغ الشرق من مسيحييه. ويقول راعي أبرشية الفرزل وزحلة للروم الكاثوليك المطران يوحنا درويش، "أننا نشجع السوريين الموجودين في زحلة على العودة إلى سوريا إذا كان ذلك ممكناً وكلما تحسنت الأوضاع في بلداتهم". ويدعو الجمعيات الدولية التي تعنى بمساعدة النازحين إلى مساعدتهم على العودة للأراضي الآمنة في بلادهم وألا تشجعهم على البقاء في لبنان.
أما اليوم، وبانتظار عودتهم، حين تكتظّ شوارع لبنان بالسيارات التي تتهافت إلى المراكز التجارية وإلى الأسواق بحثاً عن أغلى الهدايا لأغلى الناس، هل سيتذكر أحد بأن يفتح عينيه وينظر إلى الذين لا يمكنهم، حتى لو أرادوا، الإحتفال بالعيد؟
تصوير بلال سلامة (الألبوم الكامل هنا)