إختصَر أحد العارفين بخفايا الأمور زيارة رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد إلى بعبدا أمس بالقول: إنّ «رعد وهو في طريقه إلى القصر الجمهوري، كان، وكأنّه عائد منه». فهو يملك كلّ المعطيات، و«يعرف سلفاً ما الذي سيَسمعه، وقد قرَّر ماذا سيقول». فما الذي سبق اللقاء من اتّصالات ومواقف... وما انتهى إليه؟
لم تكن زيارة رعد إلى قصر بعبدا أمس منفصلة عمّا سبقها من تبادل رسائل بكلّ الوسائل المتاحة، وقد جاءت كذلك في سياق حركة الإتصالات والمشاورات الجارية منذ فترة غير قصيرة بين بعبدا وأفرقاء آخرين على طرفَي نقيض من كلّ الملفّات المفتوحة، بدءاً بالأزمة الحكومية التي دخلت شهرها التاسع على التكليف من دون بوادر ولادة حكومة جديدة، مروراً بالخلاف على الموقف من الأزمة السورية وتداعياتها على الساحة اللبنانية، وصولاً إلى آخر الملفّات الأمنية والسياسية والإدارية المفتوحة على شتّى الإحتمالات وأخطرها، بما فيها تلك التي يمكن أن تقود البلاد الى الشلل القائم في المؤسّسات الدستورية واحدةً بعد أخرى وصولاً إلى الفراغ القاتل في رئاسة الجمهورية.
وبناءً عليه، روَت مصادر سياسية واسعة الاطّلاع جوانب مهمّة ممّا جرى في مسلسل اللقاءات التي شهدها قصر بعبدا منذ فترة بعد الفشل في تأليف حكومة جديدة، وتلك التي واكبت التطوّرات الأمنية، التي تشكّل بكلّ وجوهها مرآة للأزمة السورية وتردّدات تدخّل "حزب الله" وأطراف أخرى فيها، كلٌّ على طريقته.
لا تحتاج الرواية للعودة كثيراً إلى الوراء، ولا يتَّسع المقال للروايات البعيدة، ويكفي العودة إلى المرحلة التي أطلق فيها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان تحذيرات قوية من مخاطر الآتي على البلد، بعد التشكيك المستمرّ في المؤسّسات الدستورية وتجاوز ما قال به "إعلان بعبدا" من دعوة صريحة الى التزام النأي بالنفس تجاه أحداث سوريا منعاً لإنتقال الفتنة منها الى الداخل اللبناني، وكانت سلسلة العبوات الناسفة والسيارات المفخّخة قد دخلت أحياء الضاحية الجنوبية، وبدأت سياسة الكمائن تستهدف قوافل "حزب الله" والمواطنين في أكثر من منطقة بقاعية، فيما تعيش طرابلس على صفيح ساخن، على قاعدة تبادل الرصاص على الرؤوس والأرجل بين مَن هم مع النظام السوري ومن هم ضده.
منذ نحو الشهر، رفع رئيس الجمهورية لهجته التحذيرية، معتبراً أنّ المهل الدستورية تتآكل من دون أيّ إنجاز أو ما يدل إلى إمكان احترامها، وخصوصاً بعد التمديد للمجلس النيابي بدلاً من إجراء الإنتخابات النيابية، لافتاً الى مخاطر دخول البلاد مرحلة الفراغ القاتل في قصر بعبدا، فهو لا يريد لا التمديد ولا التجديد، ولن يعطي أحداً "شرف المواجهة مع هذا الشبح" بوجود من يرغب في خوض "البطولات الفارغة "في حربه مع "طواحين الشائعات".
لكنّ الخطير أنّ من سيتولّى إدارة الفراغ، في حال حصوله، غير متوافر بالصورة التي قال بها الدستور، ولا بدّ من تأليف حكومة قادرة على إدارة المرحلة وتتمتّع بكامل المواصفات المطلوبة لوقف مهزلة وجود "حكومة مستقيلة لا تستطيع القيام بأقلّ الواجبات التي تفرضها التطوّرات المتسارعة والمفتوحة على المجهول على الساحتين اللبنانية والإقليمية، وأخرى يبدو أنّها مستحيلة في ظلّ الشروط والشروط المضادّة المتبادلة، من دون قدرة أيّ منهم على إقناع الآخر أو الوصول الى تفاهم ما ينهي الحال الشاذّة في البلاد.
قبل أسبوعبن تقريباً، زار وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال علي حسن خليل بعبدا، فحمَّله سليمان قراءته للتطوّرات والأجواء التي يعيشها، مجدِّداً التعبيرَ عن مخاوفه من اقتياد البلاد الى المجهول، وتأكيده أنّه استنفد الحديث والجهد المطلوب منه عن "حكومة جامعة" تمثّل جميع الفرقاء وفق المعادلات المتبادلة كلّها من دون استثناء، ومنها صيغة الـ "9+9+6" التي لم يتوافر الحدّ الأدنى من الإجماع حولها، بدءاً من رفض الرئيس المكلّف تمّام سلام لها، ما يحول دون ولوجها المراحل الدستورية التي تلِي التأليف، ومنها على الأقلّ نيلها الثقة النيابية في حال مثلت امام مجلس النواب.
ولذلك أصرَّ سليمان امام حسن خليل على وجوب أن يتّخذ الرئيس المكلّف قراره بتأليف حكومة تحاكي الواقع بعد تسعة أشهر من الانتظار، وفق النظرة التي يمكن ان يلتقي وإيّاها مع رئيس الجمهورية، أمّا الباقون فيقولون كلمتهم فيها، كلٌّ في دوره ومن موقعه، وأوّلهم مجلس النواب الذي سيناقشها في بيانها الوزاري قبل غيره من المؤسّسات الدستورية.
حمل حسن خليل الصيغة الى رئيس مجلس النواب نبيه برّي بعد اللقاء بساعات، ومعها الموعد المبدئي لتنفيذها قبل نهاية العام الجاري أو في النصف الأوّل من العام المقبل، ليتسنّى لرئيسها إتمام المراحل الدستورية، من وضع البيان الوزاري إلى مناقشته أمام مجلس النواب قبل أن تبتلع الأيام المهلَ التي تحوِّل مجلس النواب هيئة ناخبة في 25 آذار المقبل.
ما إن وصلت الرسالة الى عين التينة، حتى بدأت تتسرّب السيناريوهات. واختلف الجميع على اسمها: هل هي حكومة "أمر واقع"؟ أم حكومة "مواجهة الواقع"؟ أم "حكومة واقعية" لا بدّ من وجودها لإدارة المرحلة الفاصلة عن الإستحقاق الرئاسي؟ إذ هناك رئيس مكلّف وحكومة مشلولة منقوصة الصلاحيات ومجلس نيابي مقفل على أبسط مسؤوليّاته التشريعية.
لم يكن من برّي إلّا أن أطلع "حزب الله" على مقترحات رئيس الجمهورية. وبعد التشاور أقرَّ الرأي أنّ المقترح مرفوض وقد يفجّر البلاد. ذلك أنّها المرّة الأولى التي يسمّى فيها وزراء من دون التشاور مع مرجعياتهم السياسية والحزبية.
وتزامنت تحذيرات الرئيس برّي مع سيناريوهات تولّت ماكينات إعلامية ووجوهٌ توزيعَها، أقلُّها يحذّر من رفض بعض الوزراء التسليم والتسلّم في الوزارات، وما رافق هذه المعزوفة من تهديد ووعيد طاولَ رئيس الجمهورية أوّلاً والرئيس المكلّف لاحقاً، وصولاً إلى ما تولّاه بعض من هدّدوا بالثبور وعظائم الأمور وبشّروا بـ "سبعات أيّار"، في وقت كان الرئيس برّي قد أفضى الى صيغة وطلب من رئيس جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط زيارة القصر الجمهوري "نيابة عنه وعمَّن يمثل"، لمعالجة الوضع باسم تحالفه الوسطي مع الرئيس سليمان.
يوم السبت 14 كانون الأوّل الجاري، زار جنبلاط بعبدا ومعه وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال وائل ابو فاعور، ناقلاً جملة رسائل من جميع المعترضين على "خريطة الطريق" التي اقترحها سليمان، فلم يفلح في تغيير رأي رئيس الجمهورية، لأنّ "الصورة أمام الرئيس المؤتمن على الدستور لا تتبدّل بموقف من هنا أو من هناك".
وصلت الرسالة مجدّداً إلى الرئيس برّي والأمين العام لـحزب "السيّد حسن نصرالله الذي ردّ عليها في خطابه خلال احتفال تأبين حسّان اللقيس يوم الجمعة الماضي، بما تضمّنه موقفه "ونقطة ع السطر". وتولّى ابو فاعور نقل الرسائل يومَي الخميس والجمعة بين بعبدا وعين التينة، لتتولّى الأخيرة نقلها الى الضاحية الجنوبية.
تزامُناً، بلغت أجواء الإحتقان السياسي بشكل من الأشكال عدداً من السفراء الغربيين. فتحرّك السفير البريطاني طوم فليتشر ومعه السفير الفرنسي باتريس باولي وممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي ومعه ممثّلة الإتحاد الأوروبي أنجيلينا إيخهورسيت، وتوسّعت حركة مشاوراتهم للتعبير عن قلقِهم من مخاطر ما يمسّ الإستقرار في البلاد.
وفي ظلّ كلّ ما تقدّم، تلقّى رعد إشارة من قصر بعبدا بأنّ موعده مع رئيس الجمهورية حُدِّد يوم السبت الماضي، فطلب تعديله لاضطراره الى زيارة الجنوب، فحُدِّد الموعد أمس الإثنين، وبقيَ موعد الرئيس المكلّف مساء السبت كما هو مقرّر، حيث تمّ التفاهم بين سليمان وسلام على بعض الخطوات التي تلي عبور الأعياد، في مهلة أقصاها منتصف الشهر المقبل.
في هذه الأجواء، جاءت زيارة رعد أمس إلى قصر بعبدا، تأكيداً منه "أنّ خطوط التواصل مع رئيس الجمهورية لا يمكن أن تنقطع". فكان حوار وصفَه المُطّلعون بأنّه "إيجابيّ ووَدود وصريح للغاية". قال رئيس الجمهورية كلّ ما لديه من الألف الى الياء، وردَّ رعد بكلّ هدوء ومن دون استفزاز، فلم يُقنع أحدٌ الآخر بوجهة نظره، واحتفظ كلٌّ منهما بموقفه الى النهاية.
وختاماً قال العارفون إنّ رئيس الجمهورية أبلغ إلى رعد في نهاية اللقاء، أنّ هذا هو موقفه، وهو ماضٍ في الخطوات التي يراها من مسؤوليته الدستورية، وسيكشف عنها تباعاً من دون التردّد في مراحلها، وليتحمَّل الجميع مسؤوليّات ما يترتَّب على مواقفهم من أضرار، ولتكن ردّات الفعل على ما يريدها أصحابها، وسيكون لكلّ مقام مقال.