تواريخ انتهاء الحروب تحدد في الكتب وتنشر في الصحف، أما تداعياتها فلا تنتهي لسنوات وسنوات. مخطئٌ من يظنّ أنّ ملفات الحرب اللبنانية قد أقفلت بالكامل. فهناك من لا يزال مهجَّراً في وطنه، باحثاً عن العودة إلى أرض أجداده، لكنّ صوته الخافت لم يستطع بعد أن يصل إلى آذان دولة القانون رغم كل المحاولات لإيصاله، وقد تكون بلدة "الحوّارة" وجوارها في الضنية أكبر مثال على ذلك.
التهجير الرابع
قصّة "الحوّارة" مع التهجير طويلة جداً وقد تكون الأقدم في تاريخ لبنان المعاصر، بحيث أنها بدأت في عشرينات القرن الماضي مع ثورة الشاويش حين أعلن زعماء ووجهاء الضنية الثورة ضدّ الفرنسيين بسبب ضمّهم طرابلس وعكار إلى لبنان الكبير، وضدّ حلفائهم المسيحيين، فقاموا بقتل رئيس مخفر الدرك سليم البيسري الملقب بالشاويش وبدأوا يهاجمون القرى المسيحية، أي قرية "الحوّارة" والجوار. فاضطر الأهالي للنزوح إلى زغرتا حينها. وبعد فشل الثورة عاد الأهالي إلى بلداتهم ليجدوها مدمرة فبدأوا بالبناء من جديد.
وبعد موجة التهجير الأولى، سرعان ما أتت الموجة الثانية عام 1958 حين هرب الأهالي في الأحراش وساروا طوال الليل ليصلوا إلى قضاء زغرتا بسبب الثورة التي اندلعت آنذاك، حين وقعت القرى المسيحية في قضاء الضنية بيد الثوار. وبعد انتهائها، دعت الكنيسة أبناءها للعودة إلى قراهم بعد اتفاق جرى بينهم وبين فاعليات وزعماء الضنية وقيادة الجيش.
أما موجة التهجير الثالثة، فكانت عام 1969، حين جرت معارك بين الجيش والمنظمات الفلسطينية مما أحدث شرخاً بين المسلمين والمسيحيين. في تلك السنة، بدأت المعسكرات التدريبية الفلسطينية تفتح أبوابها في القرى المجاورة للحوّارة، وترافق ذلك مع التعدي على الأراضي... الأمر الذي أجبر الأهالي على النزوح من جديد إلى زغرتا.
وكان في آخر المطاف أن نال أهالي الحوّارة نصيبهم أيضاً من الحرب اللبنانية. فمنذ أن بدأت ملامح الحرب تتضح، نزح معظمهم إلى زغرتا خوفاً من أن تتكرر أحداث الـ1958، وبقي فيها فقط الكبار في السنّ. إلا أنه تمت السيطرة على الأرض وهجم عدد من المسلحين فأخذوا من بقي من الأهالي كرهائن، وبعد وساطات عدّة تم الإفراج عنهم، فانضموا إلى أبنائهم في زغرتا... ولم يعد أحد منهم حتى اليوم.
ففي قضاء زغرتا، بات هناك منطقة معروفة بـ"الحوّارة الجديدة"، يعيش فيها أهالي تلك القرى. بعضهم نقل نفوسه إلى زغرتا أما البعض الآخر فيرفض ذلك متأملاً أن تكون العودة قريبة ولو طال الإنتظار.
ملف الحوّارة يدخل إذاً في إطار الملفات المؤلمة لتاريخ التهجير اللبناني، لكنه ملف شائك جداً، واستثنائي، وكان منسياً لفترة رغم تحركات متواضعة قام بها البعض بين الحين والآخر، إلى أن انتُخب المختار طوني موسى، شاب وديناميكي، فحرّكه من جديد، لكنه توفّي منذ أشهر قليلة في حادث سير.
فعاليات الضنية مسؤولة!؟
تقع بلدة "الحوّارة" في قضاء الضنيّة وتبلغ مساحتها 25 مليون متر مربع. أما ملفّ "الحوارة" المتعلق بالتهجير فيشمل القرى المجاورة أيضاً من عصيموت والجزء الملاصق لبلدة جيرون ودبعل وبطرماز، حيث ان هذه البلدات تعتبر كوحدة اجتماعية واحدة تجمعهم كنيسة واحدة، هي كنيسة مار يوحنا المعمدان التابعة لأبرشية طرابلس المارونية.
في كتاب سلمه المختار الراحل إلى الفعاليات السياسية والدينية، وحصلت "النشرة" على نسخة منه، اعتبر أن "ما تعرض له مُهَجّرو بلدة الحوّارة هو أكثر من عملية تهجير، بل إنه عملية تطهير". وفي هذا الإطار يشرح المختار نعمة نعمة الذي التقيناه في "الحوّارة الجديدة" في زغرتا الأمر قائلاً: "عندما هُجّرنا، لم نحتل أي منزل أو مدرسة ولم نتشرّد على الطرقات، رغم أن أحداً لم يهتم بنا. فقررنا أن نعيش بكرامتنا، وقد يكون ذلك هو خطأنا... أننا لم نصبح حملاً أو عبئاً على أحد. وبعد الحرب، لم نعد إلى بلداتنا لأنه لم يكن هناك ضمانات لذلك، ووجدنا ممتلكاتنا مسيطر عليها من قبل أشخاص غرباء عن البلدة". ويتابع: "تم التعدّي على منازلنا، وهذه الإهانة يتحمل مسؤوليتها فعاليات الضنية، لأن أحداً منهم لم يسع لعودتنا".
إلا أن ثمن العيش بكرامة كان غالياً، خصوصاً لأن أهالي "الحوّارة" هم من المزارعين ولم يكن هناك فرص عمل للجميع في زغرتا، الأمر الذي دفع بجزء منهم إلى بيع أرضه بأبخس الأسعار، وبعض الأراضي دفع فقط "رعبونها" لكنها ما زالت مقطونة وكأنها ملكٌ للذي اشتراها بربع سعرها. وفي هذا الإطار، يعتبر المختار نعمة أن "البيع بالإكراه ليس حقا"، ويقول: "لقد أجبرنا على ذلك... ولكن على أي حال، فإن معظم الأراضي لم تُبَع، وبعضها صنّفت كأراضٍ متنازع عليها بعد تحركات عدّة لأبناء البلدة". فقد تم بيع مليوني متر مربع من أصل الـ25 مليوناً من مساحة البلدة.
قيمة المواطن بقيمة صوته الإنتخابي
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المساحة غير ممسوحة، الأمر الذي يجعل الملف أكثر تعقيداً. فقد دفعت الأوضاع الإقتصادية الصعبة بالبعض إلى التفاوض خلال الحرب مع من يصادر أرزاقهم بحثاً عن تسوية، وقد نصت هذه التسوية على بيع أو استثمار بعض الأراضي من أجل الحفاظ عليها ومن ثم استردادها في وقت لاحق. وكان البيع يتم بأرخص الأسعار. وتم بيع أراضٍ أخرى دون دفع الثمن المتفق عليه، كما أن الطريقة التي بيعت فيها بعض الأراضي تعتبر لاغية قانوناً لأنها كانت تتم بطريقة شفوية أو عبر ورقة دون اللجوء إلى كاتب عدل أو مختار. وبما أن الأراضي هي غير ممسوحة، وبالتالي لا يمكن التصرف بالملكية العقارية لعدم وجود مختار البلدة للمصادقة على حدود العقارات والمشاعات، تم اللجوء إلى ضم العديد من المساحات والمشاعات إلى القرى المجاورة ليستطيع مخاتير القرى والبلدات التصرف بها عبر إصدار العلم والخبر لبيع وتملك الأراضي.
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس حركة "الأرض" طلال الدويهي أن المساحة التي تم بيعها هي ضئيلة جداً هناك إنما يجري السيطرة على المساحة المتبقية من الـ25 مليون، ويكشف عن وجود عمليات كذب ووضع يد في المنطقة. ويقول: "على أي حال، وفي حال تم بيع كل المساحات، وهذا أمر ليس صحيحاً، فكيف يمكن تبرير السيطرة على مشاعات البلدة؟"، ويعتبر أن "هناك نوعًا من الإستخفاف من قبل الدولة، وكلّ يعمل وفقاً لمصلحته الخاصة، ولكن يجدر بالدولة أن تعمل لمصلحة المواطن ووفقاً للقوانين".
وفي الواقع، يعتبر الدويهي أن "اللبناني قد تحول اليوم إلى مجرّد ناخب"، لا يتم خدمته إلاّ بقدر الخدمة الإنتخابية التي يقدمها. فنواب زغرتا يشجعون أهل "الحوارة" على نقل نفوسهم إلى زغرتا، وقد أقدم 1000 شخص على ذلك بحسب المختار نعمة، أما نواب الضنيّة، فبحسب الأهالي الذين زرناهم، لا يهتمون بهم كونهم مجرّد أقلية في المنطقة، وأصواتهم لا تقدّم ولا تؤخّر. لذلك يشعر ابن الحوّارة أنه متروك من الجميع.
هذا ما يرفضه بشدّة النائب أحمد فتفت، مشدداً على أن "دورهم مهم بالنسبة لنا". ويذكّر بأن أبناء تلك المنطقة انتخبوه بنسبة 90% في الإنتخابات الماضية. الأمر الذي يؤكده أيضاً ابن الحوّارة سركيس ابراهيم، مشيراً إلى "أننا حينها انتخبنا مشروع الدولة... ولكن... لم يقم أحد بأي شيء لنا".
أما فتفت فيؤكد "أننا وضعنا الموضوع في يد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي"، مشيراً إلى "أننا مع الحق، فإذا كان لأحد حقّ ما، سنسانده إلى النهاية".
وليس نواب الضنية الوحيدين الذين سلّموا الملف إلى البطريرك، بل "حركة الأرض" أيضا، حيث كشف الدويهي عن تجاوب من بكركي لحل هذه المعضلة. وعلمت "النشرة" أنه تم تكليف راعي ابرشية طرابلس للموارنة المطران جورج أبو جودة لمتابعة هذا الملف عن كثب، وللسعي للوصول إلى الحل. هذا الحل، يكمن بحسب الدويهي، بتشكيل لجنة لدراسة كل الملفات. فمن خلال التحقيق الجدي يظهر للعيان كل شيء.
تهجير أو نزوح؟
يرفض النائب فتفت أن يعتبر ما يجري هناك كتهجير لأبناء المنطقة، بل يضعها في خانة النزوح بسبب الضيق المعيشي. فخلال الحديث معه، أوضح أن الملف عمره أكثر من 50 سنة، وأن أبناء الحوّارة باعوا تقريباً كل شيء. ويتابع: "إذا كان لبعضهم أراضٍ فنحن مستعدون لمساعدتهم على استرجاعها، ويمكن أن يصل حقّهم إليهم من خلال القضاء"، متسائلاً: "لماذا لم يتم تقديم الملف إلى القضاء اللبناني؟"
وعن وجود الملف لدى وزارة المهجرين، يعتبر أن "لا علاقة لهذه الوزارة به تحديداً، فقد تم تأسيسها لحل مشكلة الهجرة التي سببتها الحرب اللبنانية، وقد جرت مساعدة بعض أبناء الحوّارة الذين تهجّروا بالحرب اللبنانية للحصول على تعويضاتهم". ولكنه يشدد على ضرورة اللجوء للقضاء إذ هو الجهة الوحيدة المخوّلة لبت هذه الأمور ولإعطاء كل صاحب حق حقه.
أما ابراهيم فيرفض توصيفهم بالنازحين "لأنه، وبين ليلة وضحاها فرغت البلدة"، مشيراً إلى أن "كل سياسيي لبنان يعلمون بالملف، وقد أرسلنا ملفاً لكل واحد منهم (كتيّب) وقع عليه أكثر من 70 رئيس بلدية ومختاراً من الضنية"، هذا ما نفاه فتفت، مؤكداً أن نواب الضنية لم يصلهم أي شيء.
وعلى أي حال فإن الدويهي يؤكد أنه تم الوصول إلى القضاء المختص وأن الملف موجود لديه ولو بشكل انفرادي، معتبراً أنه "إذا كان فتفت ونواب المنطقة فعلاً يريدون حلّ هذه المسألة، فعليهم ان يسعوا إلى تشكيل لجنة تعطي لكل صاحب حق حقه، يتقدم إليها أصحاب الطلبات وعلى أساس الملفات التي بحوزتهم يتم أخذ القرار المناسب".
هو ملف شائك ومتشعّب لم يسع أحد لإقفاله رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على انتهاء الحرب اللبنانية. أما اليوم، فيرفع أبناء البلدة صوتهم ويعبرون عن طلباتهم: أولا، بإخلاء المنازل المصادرة، ودفع التعويضات للأهالي. ثانياً، تأليف لجنة من البلدة ومن وزارة المهجرين ومن المصادرين لحل النزاعات والمشاكل التي نتجت عن الحرب. وثالثاً، وقف التعديات على النطاق العقاري للبلدة والطلب من القاضي العقاري إرسال تعميم بإلغاء كل عمليات البيع والعلم والخبر التي جرت عن طريق المخاتير للقرى والبلدات المجاورة، ومحاسبة هؤلاء لتجاوزهم القوانين وتزوير المستندات.
نريدها... نريدها!
وفي سياق متصل، يكشف المواطن ابراهيم في حديث إلى "النشرة" عن مستندات تعود إلى "أيام القرش"، تثبت ملكية والده لمساحات شاسعة من البلدة، وهي مساحات مسيطر عليها اليوم. ابراهيم، الذي لا يتحدث بعصبية إلا عندما يتعلق الأمر بالضيعة، يخبرنا عن تملك بعض أبناء البلدة، حججاً من كتّاب عدل تحدد أراضينا، وفقاً لحدود معينة (شجرة، جدار...)، لكنهم أضاعوا المعالم اليوم، "جرفوا الدني"، ويضيف: "حوّلوا منزلي إلى حجارة وحتى الحجارة نقلوها وباعوها".
وماذا عن كنيسة البلدة؟ فقد تحوّلت هذه الكنيسة لفترة طويلة إلى "زريبة" للماعز والمواشي، حتى قرر بعض أهالي الضنية السعي إلى إقفال بابها بالحجر وإخراج الماعز منها.
"النشرة" التقت كاهن البلدة يوسف بيسري، الذي أبى إلا أن يتحدّث عن هذا الموضوع رغم الحسرة الكبيرة ورغم مرضه الذي يجبره على القيام بمجهود كبير للتحدث.
خلال حديثنا كرر الكاهن مراراً: "نريد أرضنا... نريد أن نعود... نريد أرضنا... نريدها". وقال: "الكنيسة ما زالت موجودة. أنا انشأت القبة قبل الحرب عام 1975، لكنهم حرقوا المذبح والمقاعد وكسّروا جزءاً منها... وبعد الحرب بدأوا يدخلون الحيوانات اليها". يتأثر الكاهن وتدمع عيناه عندما تسأله عن مدافن البلدة. فقد جرفها مجهولون، وقد تمت السيطرة عليها أيضاً ولم تمنعهم حرمة الموت من ذلك. أما الكاهن فيتابع بصوت خافت ومتقطع، لكن مليء بالعنفوان: سنكمل المسيرة حتى النهاية.
ليست سياسة "التطنيش" بجديدة في لبنان، لكن شعار "بعيد عن العين بعيد عن القلب" لن ينتصر، على ما يبدو، هذه المرّة، ولن يخفف من عزيمة الأهالي للمثابرة إلى النهاية. علّ الدولة اللبنانية بأجهزتها المختصّة تحكم في صدقيّة حقوق هؤلاء أو عدمها وتعطي لكل صاحب حق حقه... حينها فقط يمكن التغني بـ"لبنان الرسالة" وبوطن "العيش المشترك" وبكل الشعارات الرنّانة التي نسمعها على ألسنة سياسيينا.