تدرس النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة اليوم ملفاً متعلقاً بتبديد الأموال العامة وبمخالفة مبادئ الإدارة السليمة للشؤون والممتلكات العامة الذي وصل إلى أيديها منذ أيام بعد سعي وزير البيئة ناظم الخوري إلى صرف حوالي المليار ليرة لبنانية لمساعدة 69 بلدية بطريقة تحيط بها نقاط إستفهام كثيرة من الناحية القانونية والمالية والإدارية.
فوفق مصادر مطلعة على الملف البيئي، أرسل الوزير الخوري في آب الماضي إلى مدير عام الوزارة بطلب إستلام عقود مع 69 بلدية، قيمة كل واحد منها 14 مليون ليرة، كان قد وقّع عليها كلها في 31 كانون الأول 2012. اللافت في هذا الإطار أن العقود الـ69 وقعت في اليوم عينه، وفي القيمة عينها، بغض النظر عن حجم البلدية ونوع العمل البيئي فيها، في خطوة رأت فيها المصادر "دليل قاطع على أن هذه العقود هي بمثابة توزيع هبات أكثر منها مساعدات، ودليل أيضاً على عدم دراسة الملفات".
وعلمت "النشرة" أنه لم يتم تحديد الأسس التي تم الإرتكاز عليها لإختيار هذه البلديات دون سواها ونوعية المساعدة لكل بلدية، فوزعت على الشكل التالي: 14% منها (وهي أكبر نسبة) في قضاء جبيل، تليها الضنية بنسبة 13% وكل من عكار وبعلبك بنسبة 10%، 7% في كل من كسروان والشوف، و4% في كل من جزين وصور وصيدا وعاليه، 3% في الكورة ومرجعيون وراشيا، و1% في كل من بعبدا والنبطية والهرمل وزغرتا وحاصبيا وزحلة وبشري والبقاع الغربي. وفضلاً عن ذلك، فإنه لم يتم تحديد المعايير التي ارتكزت عليها البلديات المعنية للتقدم بطلب المساعدة المالية، هذا ولم تتضمن عقود الإتفاق المواد القانونية التي خضعت لها وفق قانون المحاسبة العمومية، فضلا عن أن أوامر مباشرة العمل لم تصدر وفق الأصول، الأمر الذي لم يسمح للوزارة بإمكانية المراقبة والإشراف على حسن تنفيذ العقود.
الغموض يعم المسألة
وبعد مرور 8 أشهر على تلك العقود، طلب الوزير "تأليف لجنة استلام تكون مهمتها استلام الأشغال والأدوات ذات الصلة بالبلديات المتعاقدة مع وزارة البيئة من أجل الحصول على مساعدات مالية" (وذلك لكي يتم دفع الأموال للبلديات)، علماً أن طلب الإستلام كان يجب أن يتم من بداية الطريق لكي تتمكن الأجهزة المعنية من مراقبة الأعمال الجارية.
وحين سلك الطلب مسلكه الاداري لتنفيذه، تبين ان مجلس ديوان المحاسبة لم يكن على علم به، فأبلغ الوزير بذلك ووافق بالتالي على ارسال الطلب الى الديوان لدرسه لان عدم ورود تأشيرته على الطلب تشكل خرقاً لأحكام قانون تنظيم الإدارات العامة.
وتضيف المصادر نفسها: الا انه في 2 تشرين الأول، أرسل الوزير الى المدير العام إحالة يصرّ فيها على تشكيل لجان الإستلام، كونه لم يتم تشكيلها منذ آب. لكن المدير العام رد على الإحالة مشدداً على أنه "لا يمكن تأليفها قبل الحصول على كافة المستندات المتعلقة بالعقود وهذا ما لم يحصل لغاية تاريخه". فأصر الوزير على وجوب تشكيل اللجنة، ولم يجد مفراً من إصدار قرار يقضي بتأليف لجنة استلام للعقود، خلافاً لأحكام المادة 139 من قانون المحاسبة العمومية، وأبلغ ذلك إلى أصحاب العلاقة (أي أعضاء اللجنة) وقسم المحفوظات، ولم يتم تبليغ هيئات الرقابة.
وتابعت المصادر انه وفي ظل تصاعد التساؤلات حول هذه المسألة التي لم تخسلك مسلكها القانوني المعتاد، صدرت في 13 تشرين الثاني، إحالة عن الوزير إلى مصلحة الديوان تضمنت ما يلي: "يُطلب إليكم إيداعنا مباشرة كافة الإحالات التي ترد من قبل المدير العام والمتعلقة بالعقود مع البلديات دون الإجابة عليها من قبلكم أو من قبل أي موظف آخر". علماً أن هذا الأمر يتناقض مع البند الأول من المادة السابعة من المرسوم الإشتراعي رقم 111 الذي ينظم الإدارات العامة.
وعلمت "النشرة" أنه لم يرد حتى اليوم لدى الإدارة العامة أي مستند يفسّر المواد القانونية التي تم الإرتكاز عليها لإبرام تلك العقود مع البلديات وصرف المال العام.
الغموض إذا يعمّ المسألة، والأمر الذي يجعلها أكثر غموضاً هو الإصرار على إستلام تلك العقود وبالتالي دفع الأموال العامة لتلك البلديات رغم إيضاح العقبات القانونية والإدارية.
تهرباً من ديوان المحاسبة؟
فمن الناحية القانونية والإدارية، إن هذه العقود لا تحمل تأشيرة المدير العام، ولا تتضمن رقم تسجيل طلب البلدية من القلم العام في مصلحة ديوان المحاسبة في الوزارة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تتضمن هذه العقود ذكر القرارات الصادرة عن المجالس البلدية، وعلمت "النشرة" أنه يجري اليوم الطلب من رؤساء البلديات الذين وقعوا على تلك العقود بالطلب من مجالسهم البلدية الموافقة عليها، الأمر الذي يتناقض مع قانون البلديات الذي يؤكد على موافقة المجلس البلدي مجتمعا على العقود قبل توقيعها من قبل رئيسه.
إلى جانب ذلك، فإن هذه العقود، لم تتضمن المواد القانونية من قانون المحاسبة العمومية التي تخضع لها، علماً أن مبلغ الـ14 مليون ليرة المحدد لكل عقد قد يكون، بحسب المصادر، بهدف التهرب من رقابة ديوان المحاسبة، وبالتالي من ضرورة ربطها بدراسة بيئية وإقتصادية لتبرير جدوى دفعها.
مساعدات بيئية مضرّة بالبيئة!
وعلى الصعيد التقني، بعد الإطلاع على طبيعة المعدات والأدوات والمواد المحددة للبلديات، يظهر أن الأعمال الموجودة في العقود تدخل ضمن مهام وواجبات البلديات، أو تدخل في صلاحيات إدارات عامة أخرى غير وزارة البيئة. والأخطر، أن بعض أهداف المساعدات تتناقض مع مبدأ حماية البيئة، كما هي الحال لناحية تقديم الأموال لتأمين معدّات لرش المبيدات. فالمبيدات تعتبر من أكثر الأمور ضرراً للبيئة كونها تبقى فيها لسنوات عدّة، وبالتالي، فلا يمكن لوزارة البيئة الترويج ودفع الأموال لرشها. وعلى أي حال، فإن هذا يقع في صلب صلاحية وزارة الزراعة. وللتذكير، فإنه عندما كانت وزارة البيئة تكافح حشرة "سيفلسيا" التي كانت تفتك بغابة أرز تنورين، لم تقم هي برش المواد لمكافحتها بل وزارة الزراعة، واستخدمت حينها الهرمونات لا المبيدات الملوثة للطبيعة.
وتهدف هذه المساعدات أيضاً، بحسب المصادر المطلعة على الملف البيئي، إلى تأمين مستوعبات للنفايات. وهنا علمت "النشرة" أن 8 من أصل 47 بلدية قدّمت لها المساعدة لتأمين المستوعبات تقع في نطاق خدمات شركة "سوكلين" التي من واجبها تأمين تلك المستوعبات. في هذا الإطار، تتساءل المصادر: "هل تريد الدولة التوفير على هذه الشركة التي تتقاضى مبلغاً مرتفعاً جداً منها أساساً للقيام بدورها؟"، وتتابع: "على أي حال، فإن هذا النوع من المساعدات هو من مهام وزارة الداخلية والبلديات بحسب قانون النظافة العامة". فوزارة الداخلية هي التي تعنى بشؤون البلديات التي تقوم على المستوى المحلي بإدارة النفايات، أما صلاحية وزارة البيئة في هذا النطاق فتتعلق بوضع المعايير البيئية لذلك.
ومن أهداف هذه المساعدات أيضاً، شراء خزانات مياه لمكافحة الحرائق، علماً أن هذا الأمر يقع أيضاً ضمن صلاحيات وزارة الزراعة بحسب الإستراتيجية الوطنية لإدارة الحرائق الصادرة عام 2009. وتجدر الإشارة، إلى أن توزيع هذه الخزانات على أي حال لا يحترم سلم الأولويات للمناطق المعرضة للحرائق. فإن البلديات التي تعتبر الأكثر عرضة للحرائق خصصت لها الأموال لتأمين مستوعبات نفايات بدلاً من تخصيص الأموال لخزانات المياه.
وعلى الصعيد التقني أيضاً، فإن جزءاً من تلك المساعدات تهدف أيضاً إلى تنظيف مجاري الأنهر، وهذا يقع ضمن صلاحيات وزارة الطاقة والمياه وفق قانون المياه رقم 221، ولا يوجد أي صلاحية لوزارة البيئة في هذا الإطار.
تبديد الأموال العامة في يد القضاء
ووصفت المصادر ما يتم السعي لتمريره بأنه يشكل تبديداً للأموال العامة، مستندة بذلك إلى المادة 17 من اتفاقية مكافحة الفساد التي صدّق عليها لبنان. لكن المسألة اليوم في يد القضاء الذي سيبتّ هو بمدى قانونية هذه العقود، وبمحاسبة المخالفة إذا ارتأى وجودها.
فالملف أصبح بعهدة النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة التي ستدرسه وتقرر إذا كان هناك من ضرورة للتوسع في التحقيق. ولدى النيابة العامة صلاحية التحقيق مع الوزير ولكن لا يمكنها إتخاذ أي إجراء بحقه في حال تبين وجود مخالفة، بل تحوّل الملف إلى مجلس النواب الذي بدوره، بصفته سيد نفسه، يأخذ الإجراءات المناسبة ويمكنه أن يحول الملف إلى اللجنة العليا لمحاكمة الوزراء التي لم تتألف بعد في لبنان.