لا ينفك مسيحيو قوى 14 آذار يعبّئون فراغهم بفراغات متتالية. لا يكفي هؤلاء غيابهم عن دائرة صنع القرار السياسي عند الاستحقاقات الحاسمة، بل يستتبعون ذلك بغياب كلي عن مناطقهم. لذلك غالباً ما يمثلون واجهة للزعامات الحزبية، تستعمل في خوض معارك «الخطابات»، وتعلق على الرّف عند انتهاء مهمتها
يتقن مسيحيو قوى 14 آذار تعبئة فراغهم بالكلمات المناسبة. يحاضرون في كل القضايا السياسية الطارئة، متنقلين بين الشاشات والإذاعات، في شكل يكاد المتلقّي يظنّ معه أن لهم قدرة فعلية على حَبْك سياسة لبنان وسياسات عدة دول أخرى: لا قانون انتخابياً من دون بصماتهم، ولا حكومة من دون موافقتهم على توزيع الحقائب ومحتوى البيان الوزاري، ولا حتى «جنيف 2» سوري أو «جنيف 3» إيراني من دون استشارتهم.
لا يمكن لمتتبع هؤلاء سوى الاعتراف بحُسن لعبهم لأدوارهم. في لاهاي، سابق النائب فريد مكاري رئيس الحكومة السابق سعد الحريري على دمعته. وفي معراب، زايد النائب بطرس حرب وزملاؤه «المستقلون» (رئيس حركة التجدد الديموقراطي كميل زيادة وأمين سره أنطوان حداد ورئيس حركة الاستقلال ميشال معوض والنائب السابق جواد بولس) على رئيس الهيئة التنفيذية في القوات سمير جعجع في رفع سقف مطالب الدخول الى الحكومة. وكاد كل من شاهد معوض في مؤتمره أمس أن يصدق قوله: «نحن المستقلين لعبنا دوراً أساسياً في تقريب وجهات النظر بين فريق الرابع عشر من آذار ...»، من دون أن يشرح بين من ومن جرى تقريب وجهات النظر.
منذ نشوء ما يسمى «مسيحيو قوى 14 آذار»، بمن فيهم المستقلون، وهم يتخبطون في هويتهم. المقارنة بين النائب بطرس حرب ونائب بيروت في تيار المستقبل عاطف مجدلاني، مثلاً، تجعل من الصعب اكتشاف أي فارق يجعل من الأول أكثر استقلالية من الثاني. والأمر نفسه ينطبق على رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون ونائب المستقبل عن دائرة بيروت الأولى ميشال فرعون. لم يفلح هؤلاء، في أي مرة، في إثبات استقلاليتهم وتمايزهم عن تيار المستقبل كفريق له كيانه وآراؤه الخاصة. وهم، بالمناسبة، فريق ثالث: لا هم في الأمانة العامة لقوى 14 آذار ولا هم مجتمع 14 آذار المدني الذي يستعين به النائب فارس سعيد عند الحاجة أيضاً.
في الاستحقاقات تعلو أصواتهم قبل أن تخفت عندما يتوصّل «الكبار» الى تسوية. أما على الأرض، فلا وجود فاعلاً لهم في مناطقهم. في القبيات، مثلاً، يعجز النائب هادي حبيش عن ذكر مشروع واحد دشنه خلال سنوات نيابته التسع. أما النائبان نضال طعمة ورياض رحال، فقد أطال التمديد النيابي قيلولتهما النيابية. رئيس حركة الاستقلال ميشال معوض قلق من شائعات التقارب بين تيار المردة وحزب القوات في زغرتا. وبالتالي لا وقت هنا للخدمات، يفضل معوض تأمين ترشيحه. لذا عمد أخيراً الى التلويح للقواتيين بالتحالف مع التيار الوطني الحر إن استمروا في تجاهله. على المقلب الآخر، يعوّض اتحاد البلديات في الكورة غياب النواب الإنمائي والخدماتي. مكتب النائب فريد مكاري يبلغ كل من يراجعه أن «المساعدات معلقة»، فيما مكاري يجول بين لاهاي وبيروت. النائب نقولا غصن يزداد غيبوبة، في ظل الحديث عن احتمال توزير نقيب المحامين السابق رمزي جريج المقرب عائلياً منه، والذي تخطط قوى 14 آذار، عبر توزيره، لإعادة الإمساك بقوة بهذا القضاء. على بعد كيلومترات، ينشغل النائب حرب بفرضية توزيره في الحكومة: إن مُنح لقب المعالي يعني التخلي عن حلم الفخامة، وإن قرر التمرد يكون قد خسر الوزارة وربما النيابة مستقبلاً. وتوزير حرب بات ضرورة لفريقه السياسي بعد اهتمام الوزير جبران باسيل الاستثنائي خدماتياً بمنطقة البترون، مستفيداً من غياب حرب وتململ القوات اللبنانية منه. وتطول الجولة من البترون في اتجاه جبيل وكسروان وبعبدا وجزين بحثاً عن مسيحيي قوى 14 آذار. غيابهم عن السلطة أخرجهم بالكامل من تلك الأقضية. في الشوف لم يحاول شمعون مثلاً ملء الفراغ السياسي الذي خلفه إقصاء قيادة القوات اللبنانية للنائب جورج عدوان.
لا يقتصر التحاق مسيحيي قوى 14 آذار بتيار المستقبل فقط، بل يتعداه الى الحزب الاشتراكي أيضاً. وهم حاضرون دائماً ليشكلوا واجهة سياسية ترفع أو تخفض سقف الخطابات السياسية وفقاً لبارومتر الأحزاب. وعند الاستحقاق الجدي يعلّقون على الرف، في انتظار أن يجد لهم زعيمهم دوراً آخر يعيدهم الى الشاشات. لذلك «دبّت الروح» أخيراً في النائب هنري الحلو بعدما صفح النائب وليد جنبلاط عنه. لا يكثر الحلو الكلام إلا عند الطلب، ومنذ ثلاثة أسابيع، احتاج إليه البيك، فتكلم. وهي حال زميله فؤاد السعد خدماتياً وإن كان وضعه، سياسياً، أكثر سوءاً لأن البيك لم يصفح عنه بعد. في الأشرفية، لا يلعب النائب فرعون في الوقت الضائع. يفضّل التحرك عند اللزوم فقط. وطالما أن الانتخابات مؤجلة، فلا حاجة لاستقبال الأهالي وخدمتهم. يعوّل فرعون اليوم على توزيره، فتصبح عندها الخدمة أسهل وأقل تكلفة. من جهتها، تعمل النائبة نايلة تويني على تكثيف فراغها، فهي على عكس مسيحيي 14 آذار، لا تهوى تعبئة الهواء السياسي.
لا يمكن لمسيحيي قوى 14 آذار أن يبتلوا بمعاص أكثر من تلك التي يغرقون فيها. فعلياً، ما من أحد يحسدهم على وضعهم السياسي، بعدما فشلوا في الاستفادة من موقعهم النيابي لبناء حيثية فردية تصنفهم ضمن الأرقام الصعبة. يتعلقون اليوم بحبل تيار المستقبل، يكفي أن يهتز الحبل قليلاً ليتساقطوا واحداً تلو الآخر.
نواب زحلة و«أعجوبة» التمديد
لا تنتمي كتلة «زحلة في القلب» الى أحد، تظن أنها تترشح على كوكب آخر وتفوز بأصوات المرّيخيين. يكاد رئيسها النائب طوني أبو خاطر لا يصدّق أن أعجوبة التمديد النيابي قد حصلت حقاً وأنقذته من مساعي حزب القوات لاستبداله. في الاجتماع «الاستثنائي» الذي عقدته الكتلة عند اغتيال الوزير محمد شطح، كان ينظر تارة الى زميله في الحزب النائب شانت جنجنيان، وطوراً الى زميله الآخر جوزيف معلوف، محاولين إخفاء بهجتهم بفلاشات الكاميرات. ستلمع الفلاشات بوجههم أقله لسنة مقبلة، وقد تتأزم الأوضاع مجدداً فيعاد التمديد لهم، سنة، سنتين، خمس سنوات، عشر سنوات. ومن يدري، قد تلتقط الكاميرات الصورة نفسها بعد عشرين سنة، وهم عُجّز. «نواب الطائف لا يفرقون عنا بشيء»، تبدو هذه العبارة في بال النواب المجتهدين حين يبتسمون. من جهته، يوضح أحد مسؤولي القوات في زحلة أن نشاط النواب (أبو خاطر وجنجنيان ومعلوف) الاجتماعي والخدماتي كان في حدّه الأدنى قبل التمديد، فكيف بعده. أصلاً «رغبة القوات في تغييرهم، وترشيحها بدائل منهم أفضل ردّ على «نشاطهم» و«حركتهم»: طلات إعلامية ما دون الصفر، هروب مستمر من المناسبات الاجتماعية ومن المدينة ولا خدمات أو نفع سياسي».